رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. إبراهيم المطرودي
د. إبراهيم المطرودي

التراث والتراث النحوي

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

في ثقافتنا اليوم اتجاهان؛ الأول يرى المشكلة كلها في متأخرة المسلمين، ويعدّهم السبب وراء كل ما نزل بالأمة، وحاق بها، والحل عنده أن يعود المسلمون إلى دينهم، ويرجعوا إلى ما كانوا عليه، وهذه وصفة مبهمة غير دقيقة ولا مفيدة؛ لأنها أولا تُحيل إلى غامض من الأمر، وثانيا تعزو العلاج إلى مختلف فيه، لا يُمكن في أحيان كثيرة تلاقيه! وثالثا تخلط بين أمرين لا ينبغي الخلط بينهما، وهما الصلاح الديني والصلاح الدنيوي، ويُشكل الأخير عندي أخطر ما في هذا الاتجاه، وأبعده عن واقع الناس الذي يعيشونه وسمعوا عنه وحكاه لهم أسلافهم.
والاتجاه الثاني يرى مشكلة المسلمين في ماضيهم، وما كانوا عليه، ويعدّ هؤلاء المسلمين المعاصرين ضحية من ضحايا ذلكم الماضي بوجه من الوجوه، والحل عنده أن يفيق المسلمون إلى أخطاء ماضيهم، ويعتنوا أكثر وأكثر بالبحث وراء ما قادهم منه إلى هذه الحالة التي يعيشونها الآن، وحجة هذا الاتجاه وأهله أن الإنسان ابن بيئته، وثمرة من ثمارها، ومن البيئات البيئة الثقافية التي رواها الأبناء عن الآباء، وأسندها المتأخر إلى المتقدم، واختلطت مع الزمن في دماء الناس، وسكنت في قلوبهم وعقولهم، ولم يعد من الممكن بعد السكون إليها والإخلاد إلى أصحابها أن يُفكّر مسلمو العصور اللاحقة أن يجعلوها جزءا من تحدياتهم، وسببا من أسباب ما يعيشونه.
لعل هذه هي الصورة الراهنة في خطابنا الثقافي، ولعلني أصبتُ في إيجاز المشهد، واختصار حكاية الواقع، وبقي أن يعرف القارئ إلى أي طائفة أميل، وإلى أي قول أذهب؟
أنا من أصحاب الرأي الثاني، ومن القائلين به، وما يزيدني إقبالا عليه، وانتماء له، أنني أراه محل الجدل بين الناس، فالجمهور الغالب رافض له، ومزورّ عن الحديث عنه، فهو لا يرى في الماضي إلا الحسنات، ولا يتذكر منه إلا ما يزيده به عشقا، ومنه قربا، وكثيرا ما كان العلاج في ما تكره النفوس، وتعافه الطباع.
وما دفعني إلى الاتجاه الثاني، وزادني بأصحابه تعلقا، أنني قلّبت معارفي التي اكتسبتها، وفتشّت قراءاتي التي انتهى بي حَيْلي (قوتي وعزمي) إليها، فوجدتُ أن معظم ثقافة الفُرقة، قديما أو حديثا، راجع إليه، وخارج منه، وفي مقدوري أن أضع خلاصة ذلك، مع ما تقدّم في المقالات السابقة، مرة أخرى في هذا السؤال:
من الذي جعل المسلمين أصنافا، ووزّعهم أشكالا، وصيّرهم جماعات تحتمي بسياج معرفي، لا يُسمح بالخروج منه، ولا يؤذن للناس بنقده، أهم المسلمون المعاصرون أم المتقدمون الذين حملنا عنهم كل شيء حتى فُرقتنا المذهبية في العقيدة والفقه؟
مَنْ الذي فصّل ثوب المذهب، ونسج للناس حدوده، وجعلهم يُوالون فيه ويُعادون، أهم أهل هذا الزمان أم أهل تلك الأزمان؟
مَنْ الذي جعل المسلمين عمال مناجم، ينحت كل فريق في منجمه، ولا يُعين إخوانه، مع أن المنجم واحد (العقيدة والفقه مثلا)، والهدف منه واحد؟
هذه التصنيفات الموروثة، وما خلصت إليه من دوائر معزولة: سني شيعي، حنفي مالكي، شافعي حنبلي، أشعري معتزلي، من أهل السنة والجماعة من غير أهل السنة والجماعة، جعلت المسلم يُؤمن أن بمقدوره أن ينهض وحده، ويتقدم دون إخوانه، وملأته استغناء عن غيره، وجمعت في نفسه إلى هذا وذاك معاداته ومنابذته، فحالت دون التشارك في إنجاز معرفي على مستوى علوم الدين؛ فالافتراق والتنازع الموروث سيقفان حجر عثرة في طريق أي إنجاز ديني جديد؛ لأن الإنجاز الجديد يُبنى على مجموع ما عند هذه الطوائف كلها، ويَتخذ من اختلافاتها منشأ فكرة جديدة، يلمّ به الشعث من جديد، ويُعيد اللحمة إليها، وهو أمر متعذر ما دامت هذه الفرق والمذاهب تتباعد ولا تتقارب، وتتنازع ولا تتصالح، ولعلكم تعجبون حين تعلمون أنّ هذا الذي عجزت عن إيجاده المذاهب الدينية ورجالها؛ استطاع النحويون أن يأتوا به، ويفوزوا بالسبق إليه، فظهرت في تأريخ النحو والنحويين ظاهرة الدمج بين المذاهب، والخلط بينها، وُنظر إليها كظاهرة حقيقة بالدرس، جديرة به، فاهتم به النحويون قديما وحديثا، وشُغلوا بتصنيف رجالها إلى هذا المذهب أو ذاك.
لقد عُرفت هذه الظاهرة في التراث اللغوي والنحوي، وأقرّ بها كثيرون، فأين أهل العقائد والفقه عنها؟ لماذا لم تنبت ظاهرة الدمج بين النحل العقائدية في القديم؟ ولماذا لم يهتم أحد من القدامى بالخلط بين المذاهب الفقهية؟
كلما قرأت في التراث، وتجوّلت في علومه؛ ازداد إيماني أن التراث الديني، العقدي والفقهي، هو التراث الوحيد الذي تفرّقت الأمة فيه، واختلفت عليه، وكان اختلافها وتفرقها في الحياة حسبه، وعلى مقداره، أفلا يكون هذا التراث، ومناهج أهله، وطرائقهم في بنائه، سببا من أسباب ما نعيشه، وعلة من علله؟
ألا تكون مراجعة هذا التراث، ومراجعة أهله، هما الحل لكثير من المشكلات التي نصطلي بنارها اليوم؟
لقد جرّ علينا التخندق المذهبي كثيرا من البلايا؛ أولها عدم الاجتماع على تطوير العلوم، والانفصال في توظيف العقل، وثانيها تأسيس ثقافة الانغلاق، والحيلولة دون الاطلاع على ما تركه الآخرون، وثالثها الانشغال في الحكم على المسلمين حسب قوالب تلك المذاهب، فصرنا إلى حالة نُعين فيها ذلكم التراث المشتت على هيمنته وبقائه، وفي ظل هذا الإطار الثقافي يستحيل أن تنشأ طائفة تدمج المذاهب، وتخلط بينها؛ لكن لعل تجربة النحويين تكشف لنا عن أن الدمج بين المختلفين ممكن، والخلط بين الاتجاهات غير مضر، فنتأسّى في تراثنا الديني بما فعله النحويون في تراثنا اللغوي، فنعالج سببا من أهم أسباب الفرقة، ونأسو علة من أقوى عللها، ونحول دون استمرار أسر العقل والضمير، وتلك هي السنة النحوية التي ينبغي علينا إحياؤها، والوقوف مع أهلها، إن كنا نأمل في المستقبل بغير ما نحن عليه الآن. نقلا عن الرياض

arrow up