رئيس التحرير : مشعل العريفي
 أ.د.صالح بن سبعان
أ.د.صالح بن سبعان

وقفة مع النفس... في يوم الوطن

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

اليوم لا أريد أن أفسد عليكم بهجة يومكم وأنتم تحتفلون بهذه الذكرى الطيبة المباركة، والحبيبة إلى أنفسنا جميعاً إلا إنني أريد أن نجعل من اليوم الوطني مناسبة نقف فيها أمام أنفسنا لنسأل بصدق وتجرد: ما الذي فعلناه بالأمس ؟ وما الذي ينبغي علينا أن نفعله اليوم لهذا الوطن الذي ما بخل علينا بشيء مما يرفعنا ويعزنا بين العالمين ؟. معجــزة الأجـــداد ************** وأُحب أن أنبه إلي أن القطاع الشبابي لهذه الأمة هو المستهدف بشكل أساسي بهذا الحديث. لقد حقق الأجداد – أجدادنا بقيادة الملك عبد العزيز – رحمه الله – معجزة توحيد هذا الكيان الذي كان ممزقاً ومتشرذماً في كيانات قبلية متناحرة، ولو تأملنا بعمق دلالات هذه المعجزة لإستطعنا ملامسة شئ من عبقرية رائد التوحيد، وكيف أنه إستطاع أن يؤسس نظام حكم يرتكز علي قواعد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فهما الأساس الذي تقوم عليه حياة كل مسلم أياً كان المذهب الفقهي الذي ينتمي إليه أو يتبعه، وهما إذاّ لحمة تماسك المسلم أياً كان الوطن أو القومية التي إليها ينتمي. إذن فقد حقق الأجداد – بفضل الله – ثم بفضل وعيهم الذي إستطاع أن يتجاوز الأطر القبلية الضيقة المغلقة، وبقوة إرادتهم هذه المعجزة، فأصبح لنا كيان عملاق يحتل أربعة أخماس مساحة جزيرة العرب بأكملها. ورسخوا نظام حكم شرعي إحتل العدل قائمة أولوياته وهذا باب واسع لا يمكن أن تستوعبه هذه المساحة. ثم جاء الآباء – آبائنا – فعملوا من ناحية علي ترسيخ ما غرسه الأجداد من القيم. ثم أرسوا أسس نهضة كبيرة عبر مشاريع التنمية والتحديث العملاقة، مما منحنا بطاقة الدخول في قلب العصر، والتواجد الفاعل في الأحداث العالمية، فصرنا لاعب أساسي في التشكيلة الدولية، ورقم صعب لا يمكن تجاوزه في السلم والحرب، وفي حركة الإقتصاد العالمية. وهذا أيضاً باب واسع لا نستطيع تفصيله هنا. إلا أن الآباء بإختصار أدوا دورهم كاملاً، وفي سبيل تحقيق ما حققوا لنا بذلوا أقصي ما يمكن أن يبذله البشر من طاقة وجهد ونكران ذات، بما يشابه المعجزة. تضحيـــات التـوحيد **************** فما الذي يجب أن نفعله الآن ؟. الحركة الثالثة هي التي يجب أن تتجه إليها إرادتنا وعزمنا، فما هي محاور هذه الحركة وإتجاهاتها هذا ما سنتناوله بإيجاز في التالي: أولاً: أننا يجب أن نضع نصب أعيننا دائماً، مهما تشعبت الطرق وإختلفت الدروب وإدلهمت الآفاق نقطة إنطلاق الأجداد الأولي، لحظة التوحيد التاريخية، توحيد هذا الكيان الذي ننتمي إليه، لأن هذه النقطة ستظل دائماً تمثل البوصلة التي نستدل بها في متاهات الأحداث الداخلية والخارجية، وهي المرجعية التي لن نُضل أهدافها مهما شتتْ بنا الإختلاف. وأنْ نَضَع كل ذلك الدم الزكي الذي أريق من أجل تحقيق هدف توحيد كياننا أمام أعيننا ونجعله حاضراً في ذاكرتنا بشكل دائم. يجب أن لا ننسي تضحيات الرجال وأمهاتهم وزوجاتهم وهم يقدمون كل تلك التضحيات الجسام ويبذلون الدم والعرق من أجل هدف يعز أحفادهم، ويحقق لهم مستقبلاً نَتمتعُ نَحنُ الآنَ بثمارهِ. ويجب أن لا ننسي أن ما نرفل فيه الآن من نعيم وما نتمتع به من مكانه إقليمياً ودولياً إنما هو – بعد فضل الله علينا – نتاج تضحيات الأجداد المؤسسون ودمائهم وعرقهم ودموعـهم. وأن التفريط في تماسك وتلاحم هذا الكيان إنما هو خيانة ليس لقيمهم ودوافعهم فحسب، بل وخيانة لذلك الدم والدموع والعرق الذي سكبوه بسخاء علي مزيج توحيده هذا الكيان الذي نفخر به، ونفاخر به الأُمم. من هنــا نبـدأ *********** ثانيـاً: لقد شابت طفرتنا التنموية والتحديثية بعض الأخطاء وكان لابد وأن تحدث لأن حجم الطفرة الكبيرة، والمدى الزمني الذي تمت فيه، وهو قصير جداً بكل المقاييس. كان لابد وأن تحدث، فيه بعض الفجوات والهنات وأوجه القصور هنا وهناك. فالطموح كان كبيراً والهمة عالية، ولكنا في سباق مع الزمن لضغطه وإختصاره. إذن فليبدأ العمل من هنا، لمعالجة الأخطاء وأوجه القصور التي لازمت تلك النقلة التحديثية وتلك التي تمخضت ونتجت عنها. وإن معالجة هذه الأخطاء تحتاج منا شجاعة أخلاقية وجرأة فكريه وفق المناهج العلمية لملامستها بوضوح والإعتراف بها، ومن ثم وضع الحلول الملائمة لها. فبدون الإعتراف بهذه الأخطاء والعمل على معالجتها سيستمر تعثر مسيرتنا التي يجب حسب المعطيات المتوفرة، أن تنطلق بسرعة أكبر وتحقق إنجازات أعظم. وفيما أعلم – وقد أوضحت هذا أكثر من مرة – وخاصة في كتابيّ (مغامرة التنمية والتحديث)، فإن الأخطاء التي لازمت الطفرة من ناحية ونتجت عن الطفرة من ناحية أخري، أفرزت العديد من الظواهر السلبية، ورسخت الكثير من القيم والمفاهيم والسلوكيات التي يجب علينا رصدها والعمل علي تصحيحها، وإحلال بدائلها، حتي يستقيم مسارنا. النقطــة الثانيـــة *************** ثالثــاً: إننا نحتاج إلي نقلة – ولا أقول طفرة – ثانية، نقوم فيها بتحديث مؤسستنا ونظمها وترسيخ القيم المؤسسية، وتفعيل ما هو مواكب من نظمنا وإصلاح وتطوير ما يحتاج إلي ذلك. يجب أن نعي أننا كدولة وكمجتمع مقبلون مع العالم كله مرحلة جديدة في تاريخ الجنس البشري، وأن هناك العديد من الإهتزازات والزلازل العالمية التي تحدث الآن بسبب التطور النوعي الهائل في تقنية المعلوماتية وثورة الإتصالات، والإكتشافات العلمية المذهلة بعد فك الشفرة الوراثية، وإرتياد الفضاء، وطوفان العولمة الإقتصادية والثقافية والسياسية الذي لن ينجو مجتمع ولن تنجو دولة أو ثقافة من تأثيراته التي إنتهكت الخصوصيات الثقافية والقومية. ولن تصمد في وجه هذا الإعصار إلا الدول والمجتمعات القوية ولا سبيل لتحقيق قوة الدولة إلا بتحديث المؤسسات وترسيخ القيم المؤسسية وإشاعة الثقافة المؤسسية، وتفعيل النظم لتعمل بطاقتها القصوى. وثمة الكثير هنا مما يمكن أن يقال عن كل أوجه الدولة ومؤسساتها وقطاعها الأهلي، وقطاعاتها الإقتصادية والثقافية والتعليمية والإجتماعية، مما لا مجال إلي التفصيل فيه هنا، الآن. هكـذا يكــون الحـب ***************** - رابعـاً: علينا أن نواجه أنفسنا بالسؤال: إلي أى مدى نحن نُمَحِضَّ الوطـن الحب الحقيقي الذي يجب أن نمحضه له ويستحق أن نُمَحِضَه له ؟. أخشي أننا لا نعطي الوطن حقه الذي يستحقه من الحب والإخلاص وإذا كنا نظن أن التغني بهذا الحب والتفاخر الشفاهي به يكفيان للتعبير عن الحب والإنتماء للوطن، فإننا بذلك نرتكب خطاءً فادحاً. إن حب الوطن يتجلي في العمل علي رفعته وتقدمه بإخلاص وتفانٍ دون منٍّ أو إنتظار مكافأة علي هذا العمل أو هذا الشعور. وأكاد أزعم أن هناك نقصاً فادحاً في تربيتنا الوطنية يمكن – بهذا المعيار – أن نلمسه في الكثير من سلوكياتنا، وأفكارنا، وميولنا العاطفية. ولنكن أكثر صراحة ووضوحاً – طالما إخترنا مواجهة الذات ومساءلة النفس: كم عالم بارز عندنا في مختلف المجالات رغم أن الدولة صرفت المليارات وأعطت وبذلت بلا منٍّ أو أذي ووفرت كل السبل لتحقيق ذلك. كم مفكر فذ إستطاع أن يكسر حاجز المحلية ليضع بصمته في خارطة الفكر العربي والعالمي ؟. بل كم أستاذ وطالب بيننا منح ذاته للعلم بنكران الذات، ووضع لنفسه طموحاً يتجاوز مصالحه وأهواؤه الخاصة، وحاول أن يحقق هذا الطموح العلمي؟. وكم ..وكم ..وكم حسناً أستاذتي وزملائي وأبنائي – فلنكن أكثر صراحةً ووضوحاً: ألا بيننا من يطغي إنتماؤه القبلي والجهوي علي إنتماؤه للوطن الكبير ؟. ألا نجد بيننا الواسطة والمحسوبية في العمل والخدمات ؟. ألا يوجد من يرتشي ؟. ألا يوجد من يفضل البطالة علي العمل بسبب نظرته الإستعلائية والسلبية لبعض الوظائف والمهن ؟ ألا يوجد من يمارسون البطالة المقنّعة فيقبضون رواتب وظائف لا يؤدونها حقها، فيتسيبون في العمل ؟. وماذا نسمي مثل هذه الممارسات وغيرها إذا لم نسمها عقوقاً في حق الوطن ؟!. إن الشخص الذي يقدم مصلحته الشخصية الخاصة، مهما تعارضت مع مصلحة وطنه، أو مصالح مجتمعه لم يتلق تربية وطنية تعصمه من هذا العقوق في حق الوطن. وكلنا يعرف يا أساتذتي وإخواني وأبنائي أن التربية الوطنية إنما تبدأ في البيت يتلقاها الطفل ويرضعها منذ طفولته الباكرة وقبل أن يدخل المدرسة. وكلنا يعرف أن التربية الوطنية تستمر أو يجب أن تستمر عبر كل المراحل التعليمية، بما يتناسب والمراحل العمرية المختلفة للطالب. إن الأساس في التربية الوطنية إنما يبدأ بالأسرة حيث تُغَّرس في وجدان الطفل في شكل قيم أخلاقية معينة، وأن التقصير في هذا الواجب، إنما يصب في خانة عقوق الوطن، علمت هذا أم تعلمه، جهلته أم قصدته. فالنتيجة واحدة في النهاية، وهي عقوق الوطن، حين تغلّب مصالحنا علي مصالح الوطن. إخوتـي: أخشي أننا لم نعط الوطن ما يجب علينا أن نقدمه، وهو الذي أعطانا بكل سخاء، عطاءً سخياً طيباً بلا منٍّ أو أذى.. أعطانا كل شئ، ولكننا إنقمسنا في مستنقع نفوسنا وأهوائنا الآسن الضيق، ولم نبادله عطاءً بعطاء. هل أبدو قاسياً وأنا أقول هذا ؟. هل أمارس نوعاً من جلد الذات؟. من وجهة نظري – وقد أكون مصيباً وقد لا أكون – فإن هذا المستوى من الوضوح والشفافية، وهذا النوع من مواجهة الذات، ليس قسوةً على الإطلاق. إنه فعل تحرير – تحرير الذات من سجن مبرراتها التي تُسَّوِغُ لنا فعل كل شئ دون حساب. فالوطن يا إخوتي هو الدار والأهل والأولاد ومستقبل الأحفاد. وقد قال أحمد شوقي أمير الشعراء: وطني وإن شُغِلتُ بالخلد عَنهُ نازعتني إليهِ في الخُلد نفسي. وأجزم لكم أن قلوبنا لو أنعقدت علي حب هذا الوطن الشامخ المعطاء، ولو إتجهت نوايانا صوب تحقيق كل أسباب عزته وقوته ومنعته بإخلاص، فإننا سنجني من ذلك خيراً كثيراً لاسيما في هذه المرحلة الحرجة والدقيقة من تاريخ الوطن، حيث يتعرض لهجمة شرسة يقودها بتخطيط شيطاني اللوبي الصهيوني العالمي، يستهدف الدور الحيوي الذي تلعبه المملكة من أجل السلام في الشرق الأوسط، وحماية الدم الفلسطيني، وحماية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. وهذه الهجمة أيها الإخوة تستهدف شل الوطن عن القيام بدوره وإسكات صوته، صوت الحق الذي يصدح به في المحافل الدولية. لذا إخوتي فإن الوطن أحوج ما يكون الآن إلي عقولنا وسواعدنا حتي نرقي به، ونَردُ عنه كيد من يضمرون له الشر، ويتربصون به ويكيدون له. وإن المدخل لهذه المهمة التي تقع مسؤوليتها علي شبابنا، هو، أن نجعل من اليوم الوطني مناسبةً لوقفة مع الذات، نسأل فيها أنفسنا: ماذا قدمنا للوطن ؟.

arrow up