رئيس التحرير : مشعل العريفي
 خالد السيف
خالد السيف

الفقه في السعودية غيابٌ للمآلات وتغييبٌ لعموم البلوى

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

ليت مَن يتصدّرون مشهدنا «الفقهي» ومجالس الفتيا أن يجعلوا من معلوم التجارب واستقراء محصّلات من سبقنا إلى حال الابتلاء «بقيادة المرأة للسيارة» مناراتٍ يهتدون بها إلى ما فيه سعة مداركهم حتى لا يكون ثمّة افتئات على الشرع أو تجاوزٌ لمقتضياته …
القيادة للسيارة من قِبل المرأة لم يُخرجها من سعة اليسر (ومطلق الإباحة) إلى العنت حيثُ مضايق العُسر فالقول مِن ثَمّ جرأة على «التحريم لها» إلا من بعد ما احتفّ القيادة للسيارة – بجملةٍ من قرائن – ليست تستقيم مع ضابطها الشرعي المعتبر – وهي قرائن جيء بها على نحوٍ من تكلّفٍ يُعدّ نقضاً لِمَا أبرمَ من مرتكزات الاتساق والوحدة في التشريع «الرباني»!! بيد أنّها خصوصية تفرّد بها الفقه «السعودي» الذي للتّو لا يني في إثبات عجزهِ عن التّخلص من عنق عُقدة – لا قاعدة – الاعتقاد قبلاً ثم الاستدلال تالياً!! وحسبنا أنّ الغاية الكبرى من هذا «التشريع» هي: تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد التي من شأن هذه الغاية (الكبرى) أن تتحد في معانيها مع المباني العظيمة لهذا التشريع التي يتغيّاها وإلا فإننا لن نتوافر على تحقيق مقاصدها في ظلّ خطابٍ «فقهيٍّ» ما فتئ يتخبّط في تلمّس ما جاءت من أجله/ وبه الشريعة الغراء.!
إنّ مناطَ تكوين الحكم الشرعيّ وتكييفه لا بُدّ وأن تسبقه ملاحظة «المآلات» التي تتمخّض عادةً عن تطبيق الأحكام الشرعية عند إرادة إصدار الحكم على أيّ نازلةٍ من قِبل المجتهدين غير أنّ الاشتغال الفقهي – في السعودية – كادت إمكاناته أن تُعلن في كل ابتلاء ظرفيٍّ عن شغورها عمن يكون محلاً للإدراك النافذ والبصيرة التي تنشأ عن الفهم العميق بحيث نظفر بمَن يكون من شأنه الاضطلاع نهوضاً بهذا النوع من «الاعتبار المآلي» ذلك أنه نوعٌ عزيز الأهلية إذ يفتقر في النهوض به إلى فقيهٍ قد اكتملت أدواته بمتانةِ عارضته وصلابة ملكته ذلك الوصف الذي يسوغ لنا نعت صاحبه بـ «المجتهد المآلي»!!
على أيّ حالٍ.. فإنّه ما من أحدٍ يُمكنه أن يُكابر ليتجشّم وعورة الجزم قائلاً: إنّ عدم قيادة المرأة للسيارة لم ينشأ عنه ضرر (ولن ينشأ عنه إلا ضرر لا يؤبه له بالقياس إلى الضرر الذي سيلحق مجتمعنا جراء قيادة المرأة للسيارة)!! أحسب أنّ هذه مكابرة ذلك أنّ الضرر المتحقّق بعدم قيادة المرأة للسيارة بات ظاهراً كما أنّ عسُر الاحتراز منه بيّنٌ فضلاً عن أن عسر الاستغناء عن العمل بخلافه ابتغاء إزالة الضرر يشهده واقع الحال الذي لا يُمكن أن يُغطى بغربال!.. فمن ذا الذي يُنكرُ – مثلاً – كون الجرائم الأخلاقيّة التي لم نعرف بهذا الشيوع إلا من خلال «السائق الأجنبي»؟! وحسبك أنّ هذا الأخير مفسدةٌ واجبة الدفع..
إلى ذلك يمكن القول: إنّ ثمّة مَن لا يسعه إلا الاعتراض على القول بالضرر الذي يطال «المرأة/ ونسيج المجتمع بمنظومة قيمه» محتجاً بأنّ قيادتها للسيارة – فيما لو تحقق – سيكون ضرره أشد وأنكى!! ولو سلّمنا له بذلك – تنزّلاً – فماذا عساه أن يقول بشأن «الضرورة» بمعناها الأوسع الذي يدخل تحت الاصطلاح الشرعي العام لـ «عموم البلوى»؟! إذ إن اعتبار وقوع الضرورة – في أمر قيادة المرأة للسيارة – متعيّن وذلك أنّ شأن السياقة للسيارة من لدن النساء بات محلاً للضرورة جراء ما يحصل عنه من عسر احترازٍ أو عسر استغناء وتلك مشقة تتطلّب التيسير و»رفع الحرج»!.. وياليت مَن يتصدّرون مشهدنا «الفقهي» ومجالس الفتيا أن يجعلوا من معلوم التجارب واستقراء محصّلات من سبقنا إلى حال الابتلاء «بقيادة المرأة للسيارة» مناراتٍ يهتدون بها إلى ما فيه سعة مداركهم حتى لا يكون ثمّة افتئات على الشرع أو تجاوزٌ لمقتضياته لأنّ إرادة الشرع نفسها أحالت على فهوم «العقل الاجتهادي» على نحوٍ من التحقيق للمناطات ابتغاء تحصيل المنافع واستدفاع المفاسد.
وبمعنىً آخر يسعني القول: إنّ تأثير الضرورة – في أمر قيادة المرأة للسيارة – كفيلٌ في إيجاد/ واستصحاب الاصطلاح الشرعي العام لـ «عموم البلوى» تكيفاً/ وتنزيلاً ذلك أنّ القول بمنع القيادة للمرأة هو الآخر مظنةٌ لما ينشأ عنه من المشقة الشديدة سواء في عسر الاحتراز من أضرارها «ماليا/ واجتماعياً/ وأخلاقياً» أو عسر الاستغناء عن القيادة بوصفها باتت من ضرورات العصر الواقع بغير اختيارٍ من المُكلّف.
وعليه فإنّ من ينزع إلى تحريم «قيادة المرأة للسيارة» باجتهادٍ لا اعتبار فيه للمآلات/ ومراعاة نتائج التصرفات بنحوٍ من اجتهادٍ يأتي عارياً من الأخذ بقاعدة «عموم البلوى» وما تكتنفها من متعلقات «الضرر» وال «الضرورة» و «المشقة» و «أخف الضررين»… و «..» و «…» أؤكد ثانيةً فأقول: إنّ من ينزع إلى القول بالتحريم – مطلقاً – دون فقهٍ لمقاصد «الكليات» ووعيٍ بالاعتبار للجزئيات وإغفالٍ لـ«المقاصد» فإنه يُخشى عليه أن يكون مشمولاً بمن يقولون على الله تعالى بغير علم…! يقول الشاطبي:«… وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات هي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكليّة شأن الجزئيات مع كليّاتها في كلّ نوع من أنواع الموجودات: فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنيّة عن كليّاتها فمن أخذ بنصٍّ مثلاً في جزئيٍّ مُعرضاً عن كُليّة فقد أخطأ.
وكما أنّ مَن أخذ بالجزئي معرضاً عن كُلّية فهو مخطئ كذلك مَن أخذ بالكلّيّ معرضاً عن جزئيّة..» بقيّة القول يُمكن إيجازه بالتالي: لئن كانت الشريعة إنما جاءت ابتغاء مصلحة الخلق في معاشهم ومعادهم فإنه من الخطل بمكان أن نجعل من «التقاليد والأعراف» حكماً على ما جاءت به الشريعة من الكليات وما تضمنته نصوصها المستفيضة من مقاصد فنحول من خلال هذه التقاليد والأعراف دون تحقيق مصالح الناس والنأي بهم عن المفاسد والمشاق وأخذهم بعيداً عمّا يخرم قواعد الشريعة وهدم مقاصدها.
ومَن استقرأ تصرفات الشريعة في مصادرها اهتدى يقيناً إلى منهج سيتسم بالدقة الفائقة حال اشتغاله في الموازنة والترجيح بين مصالح «قيادة المرأة للسيارة» ومفاسدها وسينتهي بالضرورة إلى رأيٍ راشد من شأنه أن يحفظ لهذا البلد استقراره وسير أموره بانتظامٍ يأخذها إلى أحسن الأحوال وأفضلها.
نقلا عن "الشرق"

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up