رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. زهير الحارثي
د. زهير الحارثي

في الإرادة... زيادة المعرفة تعني زيادة الألم!

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

الشعور بالإحباط عند الفشل وبالرضا حينما تُنجز هو أمر طبيعي ومتصور في النفس البشرية، ولكن لماذا؟ إنها قصة الإنسان وأسراره. وقد كتبت عنها في مواضع مختلفة. المسألة هنا مرتبطة بطبيعة الإرادة وتوجهها سلبياً كان أم إيجابياً؛ كونها متفاعلة ومؤثرة في كلتا الحالتين، بدليل ما تفرزه من تأثير على القرار. قوانين الحياة ما بين إرادة إيجابية تدفع الإنسان باتجاه النجاح، وإرادة سلبية تقوده نحو الفشل. وكأنها في الحالتين تضعه في المكان الذي يستحق، فما كينونة الحياة إلا من وقود الإرادة. قيل إن العالم في حقيقته ما هو إلا إرادة، بمعنى أن يكون متخماً بالعذاب والألم. فالإرادة لا تعني سوى الرغبة، ولذلك «عدم الإشباع» صفة من صفاتها، وقد وصفها ول ديورانت بأنها كالصدقة التي ندفعها للفقير، تغنيه عن الجوع اليوم ليواجه الفقر والبؤس غداً، أي أنه يتعذر إشباعها «فالرغبات تتوالد»، والإنسان يحمل في داخله إرادة جائعة، إن جاز التعبير، فإن أزاحها (أي حقق مبتغاها) حلت مكانها على الفور رغبة أخرى. شوبنهور، في كتابه «العالم كإرادة وفكرة»، أثار هذه النقطة تحديداً، وغاص في أعماقها، وتوصل إلى أن شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وليس في عقله. فالدم الذي يجري في الجسم، الإرادة هي التي تدفعه، والعقل قد يتعب، أما الإرادة فإنها تعمل حتى في حالة النوم. وقد تصور الحياة كأنها شر ومعاناة؛ لأنه «كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالاً ازداد العذاب وضوحاً»، ويقول: «إن زيادة المعرفة في الإنسان تؤدي إلى زيادة آلامه، كما أن ذاكرة الإنسان وبُعد نظره يزيدان في آلامه؛ لأن الشطر الأكبر من آلامنا كامن في تأمل الماضي، أو في التفكير بما سيقع في المستقبل». يعيش الإنسان وبإرادته صراعاً ذاتياً ما بين طموحه وشهواته، ما بين النجاح والفشل، ما بين رغبة الصعود والخشية من الانحدار. يعتبر الفيلسوف نيتشه أن كل ظاهرة في العالم هي - على الأقل - علاقة بين قوتين: إحداهما تهاجم والأخرى تقاوم، وكلتاهما تدخلان في صراع، بعضهما مع بعض. فمفاهيم إرادة القوة لا يمكن أن تتشكل إلا من ثنائية، وهي الحد الأدنى لها. في هذه الجزئية تحديداً يقول أيضاً: «لا يمكن أن تظهر إرادة القوة إلا من خلال علاقة مقاومة. إنها تبحث عمن يقاومها... وتبحث عن المواجهات، والصراعات. إنها تبحث إذن ونسبياً عن وحدات عليا محددة». إذن الإنسان يصارع هنا ما بين إرادة محددة وتواجهها قوة أخرى مضادة. أي هجوم ومقاومة، فعل ورد فعل. بعبارة أخرى: هناك إرادة الإنجاز والنشاط والتفاعل، وتقابلها إرادة معاكسة تتمثل في الكسل والخمول والإهمال. حينما نصف ما يحصل فإن لكل قوة إرادة، وبالتالي كل قوة تبسط هيمنتها وتسلطها على القوى الأخرى، في الوقت نفسه الذي تقوم فيه القوى الأخرى بمقاومة القوة الأولى. ولذا فإن عزل أي قوة لا قيمة له. كل تنازع داخل الإنسان يجب اعتباره تعبيراً عن مباراة بين طرفين أو أكثر، وصراع قوى. والشيء نفسه يصدق على العالم كما يرى نيتشه، فهو ليس إلا عالماً من علاقات القوى. معاناة الإنسان لا تلبث تصطدم مع معايير الأخلاق والوعي والإدراك. المعضلة تتضح في الوحل المادي الذي غرق البعض فيه، فبات همه السعي خلف الماديات والملذات، وكأن الحياة ما هي إلا حلبة لإبراز قدراته النرجسية وفرديته المغالية في الاستحواذ، بينما فئة أخرى لديها إشكالية مع الدنيا والذات، وفقاً لقناعات ليست بالضرورة صحيحة، فكانت نهايتها الانعزال ورفض المجتمع والتلاشي. الإنسان هنا بطباعه وخصائصه وكينونته رهين تدفق إرادته، ما يعني إرادة إيجابية تجسد إنجازاً، أو إرادة سلبية تقود للإخفاق. تبقى حكاية الإنسان مع الإرادة لغزاً عميقاً، لا يمكن اختزالها بهذه الصورة، وإن كان اليوم يعيش حالة عدم توازن مع ما يحيط به من أدوات ووسائل معرفية ومعلوماتية، وتغير مفاهيم وسلوكيات، وليس بمقدوره التوقف، فرِتْمه سريع هادر، ما جعله في موقف اللاهث بين إشباع رغباته وملاحقته لتسارع المتغيرات المذهل. هكذا مناخ يسبب خللاً وانقساماً في طبيعة الحياة الاجتماعية ونموها، ويعكس حالة من الانفصام ما بين الوعي الاجتماعي والتطور المادي، لتصبح حضارة مجسدة مادياً، ولكنها ميتة وموحشة من الداخل. أساس التنمية وغايتها يدوران حول الإنسان؛ حيث تتبلور الحداثة وتتشكل النهضة من خلال جهده. زيادة المعرفة والتفاعل مع المستجدات برغبة شرهة قد تقودنا للألم ربما، ولكنها هي لغة اليوم إن أردنا الحقيقة، وهذا يقتضي منا العطاء والاندماج في تيار التقدم العلمي، محاولين إعمال العقل والإيمان بالعمل هدفاً وقيمة، لنكون مشاركين في حضارة عالمية مشتركة. أنا أحلم مثلاً بتوفر إرادة مشتركة بين البشر، تستجيب وتسعى نحو تعزيز قيم التسامح والتعددية الثقافية وقبول الآخر، لبناء عالم يسوده التعايش في كوكب متعدد الثقافات. هو حلم، وما يدريك! فقد يأتي يوم ويصبح حقيقة. أليس كذلك؟
نقلا عن الشرق الأوسط

arrow up