رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. زهير الحارثي
د. زهير الحارثي

في التوتر الحضاري... الاستفادة من درس «كورونا»!

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

مع تفشي وباء «كورونا» والهلع والاضطراب والفزع الذي انتاب العالم، يبدو أن قضايا الناس وهمومهم وحروبهم ومشكلاتهم وخلافاتهم وأزماتهم تحولت إلى توافه صغيرة، لا تعني شيئاً أمام حقيقة الموت والبقاء. تساؤلات عميقة مطروحة حول تعامل بعضنا مع بعض، والفواصل والأوهام والحواجز التي صنعناها ما بيننا نحن البشر. فجيعة إنسانية عمت كوكب الأرض، وهزة مخيفة خلفتها محنة وباء «كورونا»، كمن أفاق من غيبوبة طويلة فأدرك ضعفه، وأن كل ما فعله لا يساوي شيئاً، ولا قيمة له مقارنة بكرامة الإنسان وقيمة الحياة وحقيقة الوجود، وهنا تكمن قيمة الوعي. لطالما عانى العالم ويلات من الحروب والصراعات والفقر والجوع والأمراض وقلة الموارد، وفي العقدين الماضيين كان الإرهاب هو العدو الأبرز الذي فتك بالأمم والشعوب، لا يفرق بين الأديان ولا الأشخاص. غير أن العدو الخفي الجديد المستجد يختلف عما سبقوه، وهو الذي ظهر لنا فجأة ومن دون مقدمات، ولذا ما يواجهه العالم اليوم هو أكثر شراسة وخطورة لفيروس عنيد، يجيد التنقل والانتشار من أجل القتل، ولا شيء غير القتل. من أهم الدروس المستفادة من فيروس «كورونا»، أنه قد يخلق الرغبة للجميع بضرورة تغيير الوضع القائم في عالمنا، من صور مخزية ومتناقضة ومؤلمة، والتي ترتكب باسم أسباب واهية. هل يمكن لوباء بهذه الصورة المرعبة أن يغير المعادلة، ويكسر حاجز الصور النمطية، ويدفع باتجاه تعزيز الحوار والتقارب، ونبذ الصراع والعنصرية بين الشعوب والثقافات؟ تخرج علينا بين الحين والآخر أصوات نشاز متطرفة، لا يعنيها مبدأ التعايش لا من قريب ولا من بعيد، مكرسة حقدها على الإنسانية، يتساوى في ذلك الداعشي المؤدلج أو النائب اليميني الشوفيني في البرلمان الهولندي أو الفرنسي. يخفت توهج صوت الاعتدال والتسامح والتعايش، في حين تُفتح الأبواب لأصحاب الإثارة والتصادم والتمزق المجتمعي. حضور هذه الأصوات المتطرفة من الطرفين بقوة في الساحة يؤدي إلى اندلاع حرب عقائدية ذات نزعة متطرفة، ما يعني ضياع مفتاح التواصل، وربما هذا ما يفسر الاهتمام بعلاقة الأديان ومسألة التوتر الديني في وقتنا المعاصر. يردد أولئك العنصريون أن ما يمارسونه يندرج في سياق حرية الرأي، ورغم أن الجميع يتفق على ضرورة حرية التعبير، فإن الإشكالية تكمن في المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه الحرية، وهل لها حدود مرسومة يُفترض عدم تجاوزها؟ صحيح هذه مسألة جدلية، ولكن تلك الخطوات الاستفزازية التي يُقْدم عليها البعض، أمثال النائب اليميني الشوفيني في البرلمان الهولندي جيرت فيلدرز، المعروف بمواقفه المعادية للإسلام وغيره، تدفع باتجاه تعزيز إثارة الكراهية والتفرقة، ليبقى هذا العالم عرضة لصراعات عرقية ودينية؛ خصوصاً مسألة ازدراء الأديان والإساءة للرموز الدينية. ما يمر به العالم الإسلامي من أحداث، أعطى فرصة سانحة للمتربصين بالإسلام لتضليل الآخرين، مستغلين الوضع المأزوم من عمليات إرهابية سبق أن ارتُكبت في دول إسلامية أو استهدفت دولاً غربية؛ حيث كشفت لنا تلك الجرائم بحقٍّ عن صدام حضاري مقلق، وهي بمثابة حرب نفسية، ما اعتبرها الباحثون أكثر خطورة من الحرب التقليدية. الآيديولوجيا والتنوع الفكري أمر طبيعي ومطلوب، وفيه إثراء للصيرورة المجتمعية، إلا أن الخطورة تكمن عندما يتحول متبني تلك الآيديولوجيا لمتطرف لها، أياً كانت آيديولوجيته، بدليل إصرار كل منهما على امتلاكه الحقيقة المطلقة. يتساوى في ذلك الداعشي المؤدلج أو النائب الهولندي، ما يعني أنهما رهينان لآيديولوجيتهما، وبالتالي هما يعيشان حالة اختطاف للعقل، ما تنتج عنها حالة رفض للواقع. هذا ينسحب على كل تيار أو أي آيديولوجيا معينة خرجت عن مدارها، وذهبت بعيداً في رؤيتها. طبعاً هذا لا يعني بالضرورة أن تكون النتيجة استخدام العنف، بقدر ما يعني أن قناعة هذا المؤدلج ترى الآخرين دائماً على خطأ، وأنه يمثل الصواب بعينه. إذن خطاب كل منهم يرنو إلى الغاية ذاتها، سالكاً الاتجاه نفسه، ومكرساً رأيه الأحادي، وفق تصوره بطبيعة الحال، ولذا نلحظ أنه برغم اختلاف مضامين كل خطاب ومحتوياته، فإن الغاية هي واحدة، والسلوك هو واحد: عدم القبول بالآخر. فيروس «كورونا» له بالتأكيد وجه قبيح ومظلم، ولكنه بطبيعة الحال له جانب آخر لا يخلو من الإيجابية، في حالة ما وظفناه لمصلحة البشرية عامة، وهذا هو حال الأزمات والكوارث عموماً. نعيش فرصة في وضع مختلف، ولكن لمَ لا نستفيد منها ونأخذ منها العبر، ليُبادر العقلاء في العالم من رجال دين ومفكرين وعلماء ونخب إلى مواجهة التعصب الديني، عبر حوار يهدف إلى تأسيس تفاهمات صريحة على قاعدة احترام المعتقد والتعايش. معاناة «كورونا» تجعلنا نحلم بعالم جديد تعمه ثقافة التسامح والتعايش والسلام؛ خصوصاً في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به العالم، ما يجعل الحوار والتقارب بين شعوبه أكثر إلحاحاً من أي فترة تاريخية مرت بها البشرية.
نقلا عن الشرق الأوسط

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up