رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. زهير الحارثي
د. زهير الحارثي

وإن كان بيتك من زجاج...

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

خرج الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قبل أيام بحزمة من التصريحات حول ما يدور في بلاده من أحداث، وركب موجة اليسار وضجيجها، وكأنه يقول «وإنما العاجز من لا يستبد». طبعاً من حق الرئيس السابق أن يُدلي برأيه كمواطن أميركي حول ما يجري في أميركا من مظاهرات واحتجاجات، لكن ما ليس مقبولاً أن يستغل الحدث سياسياً فيوظفه لأجندة حزبه محاولاً الإضرار العلني بالحزب الآخر، وقطع الطريق على فرص ممثل الطرف المنافس. وبغض النظر عن حظوظ هذا المرشح أو ذاك، إلا أن المسألة هنا لها أبعاد أخلاقية وقانونية ودستورية، لكنها السياسة وما أدراك ما السياسة. دعونا نتذكر السياسة الأميركية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من فترة رئاسة أوباما، حيث كانت من الضبابية والغموض لدرجة أنها أربكت المشهد السياسي، وهو ما نتج منه إرسال إشارات خاطئة إلى حلفائها وأعدائها على حد سواء، ما أدخل المنطقة في حالة من الإرباك، خصوصاً في ظل إفرازات سلبية للأحداث آنذاك، وصعوبة اتفاق الأطراف المؤثرة على تشكيل الواقع الإقليمي. التعاطي الأميركي وقتها مع قضايا المنطقة كان مدعاة للسخرية، فرهاناتها قد فشلت من دعمها لـ«الإخوان المسلمين» إلى تراجع عملية السلام، مروراً بانهيار المساعي الدبلوماسية في الملف السوري، وانتهاء بعدم التزام إيران في اتفاقها مع الغرب بشأن ملفها النووي؛ ما دفع البعض إلى أن يتساءل عن وعود الرئيس أوباما التي تعهد تنفيذها في خطابه للعالم الإسلامي، حيث اتضح أنه خطاب علاقات عامة، بدليل أنه لم يستطع ترجمة مضامينه إلى واقع. أوباما نشر مقالاً قبل أيام بعنوان «كيف يمكننا جعل هذه اللحظة نقطة تغير حقيقية»، انتقد فيه تطبيق العدالة والتمييز العنصري في بلاده، وطالب بوضع تشريعات للحد من هذه السلوكيات، وهذا أمر جيد ومهم، لكن السؤال الأهم، ماذا فعل هو بشأن هذه القضايا وقد شهدت فترة رئاسته قصصاً لا تقلّ بشاعة عما حدث للمواطن الأميركي فلويد. الحقيقة أن رئاسته لم تحرز أي إنجاز يذكر في إصلاح ممارسات الشرطة أو نظام العدالة الجنائية. بما أنه كان أول رئيس أسود يصل لمنصب الرئاسة وعلى اطلاع وفهم لتعقيدات هذا الملف؛ كان من المفروض أن ينال اهتمامه ويضع مسودة تشريعاته من ضمن أولوياته الأساسية، لكنه لم يفعل وأتصور أنه لو أعطى له جزءاً من الوقت الذي استهلكه في النقاش مع نظام إيران بشأن الاتفاق النووي لربما صنع شيئاً ذا قيمة، لكنه لم يكترث وظل تركيزه منصباً على إيران، معتقداً أنه يصنع بذلك إنجازاً يكتبه التاريخ كما جاء على لسان مستشاريه. ومما يدلل على تراجع مكانة واشنطن، أنه خلال فترة رئاسته صدر تقرير مهم عن مركز التقدم الأميركي ينتقد أداء أوباما بعنوان «الاستفادة من نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط - خطة لتعزيز الشراكات الإقليمية»، جاء فيه أن لواشنطن مصالح في المنطقة لا سيما بعد ظهور «داعش» وكارثة اللاجئين التي وصلت لأوروبا، مشدداً على أن يتخلى البيت الأبيض عن أسلوب إدارة الأزمة بالانتقال لمفهوم القيادة الفاعلة؛ ما يعني الانخراط في المنطقة عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً، فضلاً عن أن فداحة الخلل في السياسة الخارجية دفعت آنذاك خبراء ومختصين من الحزبين لتشكيل لجنة مشتركة من أجل إعادة صياغة أسس السياسة الخارجية الأميركية. الأخلاق والقيم شيء والتكسب السياسي شيء آخر. النصائح والمحاضرات والتنظير لها مساحتها المؤثرة لدى الناخب بلا شك، لكنها تتحول إلى دليل إدانة ضدك عندما تخونك قدراتك وتفشل في الإدارة والحكم عندما سنحت لك الفرصة، وهذا ما يفعله أوباما اليوم. ترمب أفضل حالاً من سابقه واتخذ قرارات جوهرية وأعاد البوصلة لجهتها الصحيحة؛ لأنه أيقن أن هناك مخاطر وتحديات ستتضرر منها أميركا وأمنها قبل دول المنطقة الحلفاء. المقام هنا ليس دفاعاً عن الرئيس ترمب؛ فملفه هو أيضاً مليء بالتجاوزات والأخطاء ويعاني اليوم من تراجع شعبيته، لكن ما يهمني كإنسان ينتمي لهذا الجزء من العالم أن من يتولى زمام الأمور في البيت الأبيض رئيس يدرك ما يُحاك في منطقتنا من مشاريع وممارسات لمحور الشر. أميركا اليوم تعاني من مرض العنصرية وقد ضربها في مقتل. العنصرية مرض اجتماعي مقيت وضيق الأفق، وبالتالي المسألة أعمق بكثير مما تبدو؛ فالأمر لا يتعلق بمقتل رجل أسود على يد شرطي أبيض، بل بنفض ملف حساس وعتيق ومليء بالدمامل التي لا تلبث أن تنفجر مع كل حالة فردية تحدث. هل فشلت الديمقراطية؟ ربما، لكن يبدو أن المسألة لم تقتصر على أميركا. حشود بشرية جابت مدن وعواصم دول العالم تعاطفاً مع الحادثة ورسالة للحكومات بضرورة وضع تشريعات تقضي وتجرّم سلوكيات العنصرية وهي التي تنامت في السنوات الأخيرة عالمياً بوجود وسائل وأدوات وتقنية ساهمت في تفشيها والتي وصفها مانديلا بأنها محنة الضمير البشري. وهذا موضوع شائق يحتاج منا إلى وقفة تأمل نفردها في مقال قادم.
نقلا عن الشرق الأوسط

arrow up