رئيس التحرير : مشعل العريفي
 فهد الأحمري
فهد الأحمري

يا ابني‫ أنت فاشل قصة نجاح ملهمة

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

مهما بلغت مآسيك، هناك من عانى أسوأ مما أنت فيه، وهناك من لا يزال يتعايش مع الظروف الصعبة، وقد ينجح بتجاوزها أو لا ينجح، لكنه مستمر في نضاله لتحقيق نجاحاته، ومن هؤلاء الملهمين، مفرح الرشيدي جمعتني به الصدفة في مناسبة اجتماعية، حيث كان جالسا جواري، ومن واجب جيرة «المسند» و«المركا» في المجلس، التعارف بين مستخدميه. ابتدرته بالسلام والتعريف بنفسي، وبادلني الأمر نفسه. وجدت الرجل يزخر بالمعارف المتنوعة ويغرف من معين ثقافات متعددة مصبوغة بلغة راقية وأدب جم وفكر متقد. قلت في نفسي، هذا هو الأمر الطبيعي، فالرجل أكاديمي ويحمل الدكتوراه، وغير الطبيعي ألا يكون كذلك. للأمانة، الرجل لم يعرّف نفسه بلقب الدكتور، حتى بادرته بالسؤال عندما علمت أنه أكاديمي. وهذه سمة الرجل الواثق البعيد عن الألقاب، والتي يطلقها كثيرون تعريفا بأنفسهم بطريقة «الشوفونية».
توطدت العلاقة، ثم كانت هناك دعوة رسمية لزيارة مدينته الشمالية في مناسبة ثقافية. وفي تلك الزيارة، كشف لي أنه درس الدكتوراه وحضّر الرسالة وهو منوّم في المستشفى يعاني من مرض «بهجت» الذي سبب له شللا كليا وأفقده بصره فترة من الزمن، حتى مَنَّ الله عليه بالشفاء من الإعاقة الجسدية والإعاقة البصرية، رغم ملازمة المرض له إلى هذا اليوم.
مرض «بهجت»، والذي سمي على اسم مكتشفه التركي «خلوصي بهجت»، هو أحد الأمراض الروماتزمية التي تنتج عن التهاب الأوعية الدموية بكل أحجامها والتهاب العين، وتقرحات في الفم وبعض المناطق الحساسة. من الممكن أيضا، أن تصيب المفاصل والأوعية الدموية في الرئتين، وكذلك الجهاز العصبي المركزي، والقناة الهضمية. بطل القصة، بدأ تعليمه الجامعي بصدمة قوية، إذ قال له أستاذه الجامعي، وفي الشهر الأول من الدراسة: «يا ابني أنت فاشل، ولا تصلح أن تدرس جامعة»! ولأنه كان مؤمنا بقدراته وقادرا على المثابرة، علاوة على جملة إيجابية كانت تلتصق بذهنه: «استمر في المحاولة ولا تصدق من يقول إنك فاشل». لذا، لم تعقه تلك الجملة القاسية من أستاذه، لينتقل إلى كلية أخرى، ويكمل تعليمه الجامعي بتفوق، ثم ينال الماجستير أيضا، وكان الوحيد الذي حصل على مرتبة الشرف ضمن دفعته تلك.
استطاع أن يحصل على قبول لمرحلة الدكتوراه، إلا أنه -وبعد أن أنجز السنة الأولى- فقد بصره فجأة وتم إخباره بأنه ليست هناك فرصة لإعادته، وأنه أصبح أعمى. لم يستسلم، بل واصل الفحوص حتى توصل إلى إمكان عمل جراحة ليعود إليه البصر، لكن هناك ضريبة لهذه الجراحة وهي احتمال أن يصبح مشلولا! كان أمام خيارين، كل منهما أصعب وأقسى من الآخر، إما مشلول يبصر أو أعمى يمشي. ولأنه مسكون بحب الإنجاز والمغامرة وحسابات أخرى شخصية، فضل إجراء الجراحة ليكون مبصرا حتى لو أصبح مشلولا. خرج من غرفة العمليات لا يشعر بأي شيء في الجزء السفلي من جسده، ولا يستطيع تحريك يديه.
عشرون يوما بعد الجراحة قضاها مشلولا وأعمى، حتى أن مرافقه كان يؤكله بيده. وكما فقد بصره فجأة، عاد إليه البصر فجأة، لكنه مشوش، بينما لا زال الجسد مشلولا. وكما صدمه أستاذه في الجامعة بقوله «يا ابني أنت فاشل، ولا تصلح أن تَدرُس جامعة»، تأتيه الصدمة الأخرى من أخصائية العلاج الوظيفي بقولها «خلاص.. أنت لا تستطيع أن تمشي طوال حياتك». كان صديقا للقدر مع التمسك بالتفكير الإيجابي والفأل الحسن، لهذا لم يخِب، بل بدأ في تحسن غير أنه بسيط ومتدرج، عبارة عن جلوس على السرير الأبيض والنزول للكرسي المتحرك فقط.
بدأت السنة الجامعية وهو بين ظروف الإعاقة وحلم الدكتوراه، إلا أنه رفض أن يكون جثة هامدة، بل واصل مشروعه العلمي. ومن على السرير الأبيض، اتصل المريض برئيس القسم في الجامعة، وطلب تسجيل مواد الفصل الجديد فأجابه الدكتور: «أنت معوق وصحتك أهم من هذا»، إلا أن الطالب المعوق أصر على أستاذه لتسجيل مواده. لم يتغيب عن محاضراته في الجامعة، بل كان يحضر على كرسي متحرك، وفي يده المغذية، وأحيانا بلباس المستشفى. المتعِب في هذا لم يكن المرض وآلامه والإعاقة الموجعة للنفس والبدن، والبعد عن أهله وبيته فحسب، بل هناك المرافق الوفي الذي كان يلازمه طوال تلك الفترة في المستشفى والجامعة، حتى أنه كان يقرأ له من البحوث ثم يُملي عليه الطالب ما يكتب كي ينجز متطلبات المواد.
في المستشفى، كان شعلة نشاط، رغم الإعاقة، حتى أنه، وعلى الكرسي المتحرك، اهتم بالمستشفى الذي كان يقيم فيه، من حيث المرضى، ومنسوبي المستشفى أنفسهم. فأقام معرض رسومات مشجعة للمرضى، وكان له دور فعّال في تخفيف معاناتهم وتسليتهم. وفي جانب منسوبي المستشفى، قدم دورات للموظفين والموظفات في المنشأة الصحية نفسها.
كفاح الرجل وجَلده، لم يكونا وليد اللحظة، بل كانا منذ الصغر. في البادية، راعيا للغنم حتى نهاية المرحلة الثانوية. راعي الغنم في الصغر وصاحب المرض المؤلم في الكبر، والذي على إثره هو الآن يتعاطى الكيماوي، عمل على تطوير نفسه حتى أضحى أكاديميا، وعضوا فاعلا في أحد أندية الوطن الأدبية في منطقة شهيرة بالأدباء ورجالات العلم والثقافة. رغم ملازمة المرض إلا أنني لم أشاهد أنشط من شخصه وإخلاصه في العمل الموكل إليه. يحدثني ويريني خططا وأهدافا يرسمها، في عمله بالجامعة، ذات إستراتيجيات بعيدة المدى تخدم حتى من بعده عندما يترجل هو عن العمل لتقاعد أو طارئ معين. مهما بلغت مآسيك، هناك من عانى أسوأ مما أنت فيه، وهناك من لا يزال يتعايش مع الظروف الصعبة، وقد ينجح بتجاوزها أو لا ينجح، لكنه مستمر في نضاله لتحقيق نجاحاته، ومن هؤلاء الملهمين، الدكتور مفرح الرشيدي الذي يفخر به وبأمثاله الوطن وأبناء الوطن.
نقلا عن الوطن

arrow up