رئيس التحرير : مشعل العريفي
 فهد الأحمري
فهد الأحمري

ما علاقة الفقر بالأمانة.. قصتان عشتهما

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

هل هناك رابط بين الفقر والأمانة، بين الغِنى والخيانة؟
مشاهد عايشتها بنفسي خلال زياراتي لبعض البلدان الفقيرة، استعرض هنا قصتان، إحداهما في دولة متوسطة الفقر والأخرى في دولة تتربع على صدارة الفقر عالميا، بحسب الإحصائيات الدولية.
في رحلتي الأخيرة لدولة أذربيجان- وهي من الدول التي يجتمع فيها الضدان!- الغنى والفقر-، حيث البلد غني بالموارد البيئية الطبيعية ومنها النفط والغاز بينما نسبة كبيرة من الشعب الأذري تعيش في مستوى فقر معين، لدرجة أن مليوني شخص من أصل ثمانية ملايين نسمة- أي ربع السكان- مهاجرون، والعديد منهم عمال يعيشون في روسيا.
في تلك الزيارة، استوقفني، ومن بصحبتي، مشهد يجتمع فيه الفقر والأمانة. حدَثت القصة في ضاحية صغيرة بعيدة عن العاصمة، حينما توقفت ورفقائي الأعزاء لشراء بعض الأشياء وأداء الصلاة. وحين كنت أهم بالخروج من المسجد للحاق بالرفاق، سقط جوالي هناك. وعلى مسافة زمنية تقارب ثلث الساعة بالسيارة افتقدت الجوال. عدت وأصدقائي إلى المسجد، وفي فناء المسجد وجدنا ثلاثة أطفال بين الثامنة والعاشرة من العمر خارجين من المسجد، بادرَنا أحدهم بالقول «موبايل، موبايل»؟ أي تبحثون عن موبايل؟ فبادرته بالإيجاب- بلغة الإشارة- لكوننا لا نجيد لغتهم الأذرية. قادنا هو ورفقاؤه إلى داخل المسجد وانتزع الجوال من بين مفارش نوم مرصوفة جانبا.
موقف أخلاقي جميل من أطفال بهذا العمر، أعاد لي الروح العالية، بوجود جهازي الذي يحوي وثائق تساوي ثمنه عشرة أضعاف، وبين المتعة في مشاهدة الأمانة في أسمى معانيها، بيد أن هذا هو الفصل الأول من المشهد، يعقبه الفصل التالي الأكثر دهشة.
كان الموقف يتطلب منا، في مثل هذا الحال مكافأتهم كعرف أدبي وأخلاقي، غير أنهم حين شاهدوا أيدينا تمتد لفتح المحافظ لتقديم النقود، بدأوا بالاضطراب ثم بإشارة الرفض، وأحدهم هرب من المسجد باتجاه مكان آخر. تبعه الآخرون، غير أننا لحقنا بإثنين منهم في فناء المسجد. حقيقة، تملكني الذهول لهذا الموقف وتسمرت وصديقي «أبو سهيل» أمام المشهد الدرامي بينما صديقنا الآخر «أحمد»، تولّى زمام محاولة إقناعهم حتى أنه اضطر لوضع النقود في جيوبهم قسراً مبتدئاً بالطفل «أكشين» وهو اسم الطفل الذي قدّم لنا جهاز الجوال.
بدأت بتوثيق «المعركة النبيلة» في فناء المسجد بين الصديق أحمد من جهة والطفل أكشين ورفقاؤه من جهة أخرى من خلال عدسة كاميرا نفس الجوال «مدار» القصة ووقودها الأول. بطل الفيلم، أكشين، قام بمغافلة صديقنا أحمد وهو يغادر المكان ليعيد النقود إلى جيب أحمد الخلفي. يلتفت إليه أحمد ويعيد له النقود، مرة أخرى، لكن أكشين يترجاه: «لا لا… الله الرازق..لأجل الله خذها.. لو سمحت خذها» بهذا النص المترجم، لاحقا، من خلال الصديق صالح الطاهري طالب الطب المقيم في أذربيجان.
كان التوقف في هذا المكان وفقدان الجوال، نعمة عظيمة مهداة لنا لنعيش وأصدقائي تفاصيل هذا السيناريو الملهم والذي يحسن تقديمه درساً أخلاقيا جميلاً لما يفترض أن يكون عليه سلوك الطفل النزيه، والذي بالتأكيد خلفه تربية منزلية وبيئية تفخر بها هذه البلاد عن بكرة أبيها.
الموقف الآخر كان في دولة إندونيسيا، حين نسيت حقيبة صغيرة، فيها جوال وبعض الأوراق والبطاقات في المرتبة الخلفية لسيارة التاكسي. وبعد النزول من التاكسي والتوجه لتسجيل الدخول في الفندق، انتبهت إلى عدم وجود حقيبتي الصغيرة. طلبت من صديقي استكمال إجراءات الدخول لأتوجه إلى المطار حيث شركة سيارات التاكسي الذي كنت فيه لعلهم يتواصلون مع السائق.
تعرفت الشركة على السائق من خلال سند «المشوار» الذي سلموني إياه عند طلبي للتاكسي، ابتداء. أجابهم السائق من خلال جهاز الاتصال الخاص بين السائق والشركة بأن الحقيبة فعلا موجودة وقد عثر عليها زبون آخر، ركب معه من وسط جاكرتا وقدمها إليه. انتظرت في المطار قرابة الساعتين حتى وصل السائق وقدمت له مكافأة لا تساوي شيئا أمام قيمة الجهاز فيما لو أنكر وجوده واستعمله أو باعه.
لا يسعني الحديث أكثر عن هذين المشهدين اللذين يعبران عن قيم ومبادئ في الأمانة وعفة النفس، لا سيما وأن تلك الأجهزة مرتفعة السعر وتعادل شيئاً كثيراً في بلاد تعيش غالبية شعوبها تحت خط الفقر العالمي.
على الرغم من أوضاعهم المعيشية وفقدهم لأبسط مقومات الحياة، إلا أنك لا تعدم ملامح إشراقات أمل تنير سواد أحزانهم وضيق عيشهم، إنهم يواجهون الظروف وقسوة الحياة بابتسامة الرضا وقيم الأخلاق ومبادئ الشرفاء. المتأمل في حالهم، يدرك المعنى الحقيقي للسعادة، التي لا ترتبط بالغِنى والثروة لكنها تكمن في قيم داخلية. إنهم «فقراء لكن سعداء».
بالتأكيد، لا يعني هذا تعميم النزاهة في أوساط الشعوب الفقيرة وفقدانها بين أقرانها الغنية لكن النموذجان المذكوران يعبران عن الحالة، وقد يندر وجود أمثالهما في أوساط شعوب غنية ماديا، فقيرة أخلاقيا، وربما تدّعي التقوى «والتخويف من الذنوب، المميتة للقلوب» بينما تختلس حذاءك من أمام بيت الله ولو تمكنت لانتزعت عقار بيتك لتضمه إلى أرصدتها المشبوهة.
نقلاً عن صحيفة الوطن

arrow up