رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. زهير الحارثي
د. زهير الحارثي

مسؤولية النُخب... المواجهة لا الهروب!

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

أنا وما بعدي الطوفان، عبارة قالتها عشيقة لويس الرابع عشر ولكنها ما زالت تعيش معنا اليوم كاشفة عن طبيعة العقل البشري حينما تتضخم الأنا إلى آخر مدى، وتصل المكابرة إلى أعلى مستوى بتجاهل حقيقة الأشياء. يمكن إطلاق تلك العبارة على بعض النماذج المثقفة في عالمنا العربي التي قد تفاجئك بأمور ليس من المعتاد توقعها. يقال إن تراثنا العربي لا يقبل اندماجاً مختلفاً، وإنه ضد الرأي الآخر وقد نتفق أو نختلف مع هذا التصور، وهذا ليس مهماً بقدر ما أن الإشكالية ترتبط بالقائمين على هذا التراث، لا التراث نفسه. نحن لا نجلد الذات هنا بقدر ما نعكس واقعاً حياً. مسؤولية النخبة (الإيليت) أو الطبقة المثقفة كالتي تنتمي للأوساط الثقافية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني، مضاعفة في استشعار ما هو مطلوب والقيام بما يقع على كاهلها من أدوار للنهوض بأوطانها. فيا ترى هل تقوم تلك الشرائح بدورها الحقيقي في عالمنا العربي؟ أشك كثيراً في ذلك. ولكي نمضي للمزيد من الشفافية، نقول إن البعض يركب الموجة للحصول على شعبية رخيصة، وهذا قمة الابتذال الثقافي، فالبحث عن أضواء وتصفيق شعبي لمجرد التصفيق هو بلاهة واستخفاف بعقلية المتلقي وما أكثره اليوم. وما هي منجزاتهم للتعاطي مع التحديات؟ ماذا فعلوا إزاء معالجتها ومواجهتها بعيداً عن تلميع أنفسهم؟ ناهيك عن الآيديولوجيا أيضاً التي غالباً ما تكون حاضرة في المشهد العربي ونلحظها في مضامين هذا الخطاب أو ذاك، ولذا لا نستغرب تفشي تلك الممارسات والسلوكيات والعلل في مجتمعاتنا. وفي ظل هذه المعاناة للأسف يكتوي الإنسان العربي بنار الصراعات الداخلية، حيث تضخم الأنا وواقع الضعف لأن تقويم التاريخ وبطريقة انتقائية يؤدي إلى صدمة وانتكاسة وفقدان ثقة، خصوصاً عندما تصطدم بالحقيقة. معضلة بعض النخب العربية تكمن في آلية تفكيرها كونها تتمسك بما تؤمن به من تصورات واعتقادات ومفاهيم، ولا تتوانى عن إصدار أحكامها. وتتعجب من سلوكها لا سيما فيما يتعلق بقناعاتها بغض النظر عن الحقيقة أو مصلحة الأغلبية أو مصالح الوطن. قاموسها لا يعير اهتماماً للقيم والمبادئ، والسير مع التيار العام إن وجد، ما يعني الهروب من المواجهة، مع أن العقل يرفض الانتهازية، والمبادئ تصطدم مع النفاق والفساد. ماذا فعل هؤلاء النخب في مواجهة المخاطر التي تواجه دولنا؟ أمراض وأوبئة استشرت وباتت تهدد حياة الشعوب. العنصرية مثلاً مرض اجتماعي مقيت وضيق أفق يصيب النسيج المجتمعي فيمزقه ويفتته، وأن التميز في مجال لا يعطيك الحق في الشعور بعقدة التفوق والشعور الاستعلائي على الآخرين. الحقيقة أنه عندما تتم التفرقة أو الازدراء أو التفضيل بسبب الجنس أو اللون أو العرق، فإن ذلك يعني تعصباً وانتقاصاً من قيمة هذا الإنسان وانتهاكاً لحقوقه، ولذا لا يمكن مواجهة كل ذلك إلا بإصدار قوانين داخلية يتم بموجبها تجريم كافة السلوكيات والألفاظ والإشارات والكلمات التي تنطوي على تحقير الآخرين أو الانتقاص من الآخرين أو معايرتهم بصفة أو نسب أو عرق أو لون أو مذهب على سبيل التهكم والسخرية. إن السلوكيات التي تعلي من شأن فئة فتعطيها الحق في النظر بدونية لفئات أخرى ما هي إلا سقوط وضيع لقيمة الإنسانية. هناك أيضاً صور جديدة من الفساد النخبوي إن جاز التعبير؛ عندما يتحول بعض المثقفين والمبدعين والفنانين إلى صور وأشكال وقوالب متلونة، خاصةً في الأزمات، فيركنون للافتعال والخداع والكسب والبحث عن المصلحة. طبعاً لا نعترض على أحقية الإنسان في التعبير عن رأيه، أو حتى في تغيير قناعاته في مرحلة من المراحل. إنما القصد هو مسألة التغير والتحول السريع. هذا النموذج بالتأكيد يعكس موقفاً متناقضاً ومن خلفه دوافع انتهازية وانتفاعية. من العسير أن تجد منهم من يتمسك بموقف صادق أو بكلمة حق؛ حيث سرعان ما ينقلب للاتجاه الآخر وبزاوية معاكسة، لتفضح حقيقة هذه الذات المغالية في الانتهازية. هذه الأجواء تقود إلى السقوط والتردي وتخلق عزلة ثقافية اجتماعية، ما يصيبها بحالة اختلال توازن في عالم يتسارع ليصبح منزلاً كونياً. وليس جديداً القول إن طبيعة أغلب المجتمعات العربية تميل إلى عدم قبول الاختلاف ما يجعل بناء الثقافة وملاحقة التلاقح العولمي بطيئاً أو متأخراً ما يفسر بقاءها في موقع المدافع، لا المهاجم. بعض النخب العربية ترسم الماضي والتاريخ كما تمليه عليها قناعاتها وأحلامها وبالتالي ترى المستقبل من خلال التصور الذي تخترعه لنفسها، وأن يتخاذل العوام والدهماء فهذا طبيعي ومتصور ولكن أن تتقاعس النخبة عن أداء واجباتها وأدوارها المنوطة بها عن جهل أو ربما عن قصد فهذا الجرم بعينه. على النخبة الركون للحوار والانفتاح، وقبول التعددية والاختلاف في بناء ثقافة المجتمعات والتحلي بالشجاعة الأدبية، لأنها تحمل رسالة يفترض أن تكون نزيهة وصادقة.
نقلا عن الشرق الأوسط

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up