رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالحميد العمري
عبدالحميد العمري

كشف حساب القطاع الخاص «1»

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

الفرق كبير جدا بين أن يحظى قطاع أو شركة معينة بدعم حكومي في بداية نشاطه، وبين أن يتحول ذلك الدعم "المؤقت" في الأصل إلى أمر مستدام طوال حياة ذلك القطاع أو تلك الشركة، ليتحول الأمر برمته إلى ما يشبه حالة "الإدمان المفرط" من قبل القطاع الخاص على ذلك الدعم، المكلف ماديا في الأصل على كاهل الاقتصاد الوطني والميزانية العامة.
وعلى أن سياسات وبرامج الدعم الحكومي لأي قطاع، تتسم بكونها مؤقتة زمنيا، تتركز على النهوض بوضع المنشأة أو القطاع في بداية نشاطه لأول خمس أو عشر سنوات، أو حتى 15 عاما بحد أقصى، إلا أنه لا يصح أن يستمر باستمرار حياة تلك المنشأة، ولا يصح إطلاقا أن يتحول ذلك الدعم أو التحفيز الحكومي المحدد الهدف والفترة إلى ما يشبه الحقوق والمكتسبات، وأن تصل الجرأة لدى قطاع الأعمال للمطالبة باستمرار ذلك الدعم والتحفيز، بل بزيادته دون النظر إلى أي اعتبارات مالية أو اقتصادية أخرى. يأتي هذا النقاش في الوقت الراهن، الذي علت خلاله أصوات كثيرة من كيانات القطاع الخاص، بعد أن تراجعت هوامش أرباح بعضها، والبعض الآخر انحدر إلى درك الخسائر الرأسمالية الفادحة، وبعض منها أوشك على الإفلاس إن لم يكن قد أفلس تماما، محملا بالمطالبات والديون الهائلة!
لم يمض وقت طويل على انخفاض أسعار النفط، حتى انكشفت حقيقة كثير من كيانات القطاع الخاص، التي كانت حتى زمن قريب جدا تنكر تماما، وعلى رأسها الكيانات العملاقة العتيقة العمر، أنها كانت تقتات من رأسها إلى أخمص قدميها على الإنفاق الحكومي بشكل عام، والإنفاق الرأسمالي "العقود والمناقصات" بشكل خاص، وتتربح بدرجة كبيرة جدا من التحفيز والدعم الحكومي على اختلاف أشكاله "قروض دون فوائد، خفض تكلفة استهلاك موارد الطاقة". أتت هذه النتيجة كجزء من حديث أوسع في اتجاه إصلاح وتطوير الاقتصاد الوطني، والضرورة القصوى لأجل تحقق هذا الهدف الاستراتيجي، وكشرط أساس أن يتحقق تبادل حقيقي للأدوار بين كل من الحكومة والاقتصاد الوطني، انتقالا من العلاقة الهشة الراهنة المتمثلة في ارتفاع دعم الإنفاق الحكومي للاقتصاد الوطني، إلى العلاقة الأكثر رسوخا وصلابة واستقرارا بأن يكون الاقتصاد الوطني هو الذي يدعم الإنفاق الحكومي، وأن تحقق كل ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بتوافر كيانات قطاع خاص مرتفعة الإنتاجية، ومتعددة القاعدة الإنتاجية، وتتمتع بقدرة تنافسية متينة.
الإشكالية هنا أو الورطة التي لم نستطع الخلاص منها؛ أن "الرضيع" لم نجرؤ على "فطامه" حينما حان سن الفطام، وظل يطلب رضاعة حليب أمه طوال حياته، وتزايدت جرعاته مع نمو بدنه الكبير، حتى أنها فاقت حجما وتكلفة كل ما نتج عنه من نشاط ومشاركة! وتحول انتظار أن يشب ذلك الطفل ليصبح رجلا مستقلا قادرا إلى سراب تام، حارما إخوته الذين جاؤوا بعده نصيبهم، وذاك هو القطاع الخاص، ممثلا في المطالبات غير المقبولة ولا الموضوعية لكبار كياناته باستمرار رضاعته للمحفزات والدعم الحكومي إلى أجل غير معلوم! لن يقنع أو بمعنى أدق لن يرضخ هذا الطفل الكبير لفطامه إلا بالحزم الصارم، والمنع الصريح، ليواجه مصيره المحتوم، فإن كانت لديه القدرة على التكيف مع الطور الجديد لحياته، والخروج من هذا المأزق، فإنه سيخرج كيانا أكثر قوة وصلابة بكل تأكيد، وستتجاوز نتائج تلك القوة والصلابة حدود الكيان أو المنشأة، لتصل إيجابيا إلى الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء.
أما إن لم يستطع ذلك الكيان الصمود، والبقاء واقفا على قدميه بعد افتقاره إلى العناية الحكومية، فلا أبعد من القول عنه؛ إنه كان عبئا ثقيلا على كاهل الحكومة والاقتصاد الوطني، وعلينا ألا نقف تعلو وجوهنا الدهشة والصدمة عند لحظة سقوطه، بقدرِ ما إن ذلك السقوط لأحد الكيانات الهشة سيؤدي إلى نشوء كيانات أخرى أكثر صلابة وقوة وقيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وأنه لولا سقوط هذا العبء المكلف على كاهل الجميع، الذي كان يأخذ أكثر مما يعطي بأضعاف كثيرة، لما ولدت ونشأت كيانات أخرى تحل محله، وتتمتع بقوة إضافتها للاقتصاد أكثر بكثير مما كان يقدمه ذلك الكيان الهش الذي سقط "على افتراض أنه قدم شيئا في الأصل"، وفي الوقت ذاته لا يتطلب نهوض تلك الكيانات ووقوفها مستقلةً على قدميها، أن تتحمل الدولة أو الاقتصاد الوطني عبئا ماديا كبيرا.
سيقتضي الحديث عن المرحلة الراهنة والمستقبلية، وما يجري خلالها من تحولات جذرية تمس الجميع دون استثناء "الحكومة، القطاع الخاص، أفراد المجتمع، بقية المؤسسات"، التركيز على "القطاع الخاص" كونه صاحب الصوت الأعلى ارتفاعا، والأدوات والقنوات الأكثر عددا في الوقت الراهن، الذي غلب عليه التشكي والتحذير من نتائج تلك التحولات اللازمة. أقول سيقتضي الحديث حول هذا الجانب كتابة عديد من المقالات والتقارير تحت عنوان "كشف حساب القطاع الخاص"، نكتشف من خلاله ما له وما عليه، ويكفي القول هنا للتأكد من الثقل الهائل جدا لحجم هذا الموضوع، أن تتعرف على حجم التحفيز والدعم الحكومي المقدمين للقطاع الخاص خلال آخر 30 عاما "1987-2016"، كشفت البيانات الرسمية عن بلوغه خلال تلك الفترة نحو 5.5 تريليون ريال "15.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي"، ليثير كثيرا من الفضول حول معرفة ماذا قدم القطاع الخاص في المقابل على مستوى النمو الاقتصادي وتنويع قاعدة الإنتاج وتوظيف العمالة الوطنية، كمؤشرات أداء على سبيل المثال لا الحصر! مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار جوانب عديدة؛ لعل من أبرزها:
(1) عدم تعميم أي تصور أو نتيجة كانت على عموم كيانات القطاع الخاص.
(2) ضرورة التفريق بين كيانات القطاع الخاص حسب الحجم "صغيرة ومتوسطة، كبيرة وعملاقة"، وحسب النشاط أوالمجال الذي تعمل فيه، وحسب عمر تلك المنشآت والكيانات. إنه الموضوع الأكثر أهمية في المرحلة الراهنة، التي تتضمن الخطوات الأولى لتنفيذ البرامج المختلفة والعديدة لـ"رؤية 2030"، وكيلا تختلط على الأطراف كافة أية أوراق أو حقائق، قد يؤدي اختلاطها إلى إرباك أو تعطيل برامج التحول باقتصادنا الوطني إلى اقتصاد أكثر إنتاجية واستقلالية واستدامة. وأكمل الحديث في المقال التالي بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق.
نقلا عن "الإقتصادية"

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up