رئيس التحرير : مشعل العريفي
 خالد السيف
خالد السيف

(لَطَرَتْ عليكم قِلتوا حِريّة)

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

لابُدّ من كسرِ حاء الحُريّة ذلك أنّ «الرّبعَ» هكذا يلفظونها مبنىً كما كانوا قبلاً يُمعنون في كسرِها معنىً! في حين يضمُّ الحاء «حركةً» مَن انشغلوا بها «حياةً» فاستقامَ «إنسانُهم» على سُوقه يتفيأُ ظِلالَ «كرامته».
ما لم يتمّ رفع الظلم/ والهوان اللذين يُشكلان «السّوس» الذي ينخر في بنية المجتمع فليس ثمّة «حرية» ذلك أنّ الوجه الآخر لـ «الحرية» عدَلٌ يسوسُ به «السلطان» الرعية على النحو الذي يحفظ للإنسان «كرامته» وينأى به عن فعل الاستبداد الذي يغتال «إنسانيته»! ليس كذلك وحسب وإنما يحفظُ لـ «العُمران» صلاحه بنحو ما قاله ابن خلدون «الظلم يُؤذن بخراب العمران» وفي سبيل الكشفِ عن أبعاد نظريته طفِقَ – ابن خلدون – يذكر جملة من مظاهر/ مقدمات الخراب بقوله «اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح و المكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم في المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال وابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة».
تبقّى – من المقالة – إلفاتُ النظر إلى هذه المجملات:
* العدل المطلق ليست الدنيا هي المكان الذي يُمكن أن تنصب فيه خيامه وتشرع فيه أروقته وإنما «القيامة» هي مكانه (الوعد الحق) بمعنى أنّ العدل لا يأتي دفعةً واحدة في دنيانا كما أنّه سيظلّ منقوصاً في مكانٍ وعلى شيءٍ من مقاربة التمام في مكانٍ آخر، ومن هنا كان «العدل» من أسمى مقاصد الشريعة التي يُتطلّب إجراؤه وفق قواعد وجزئيات قد تتخلّف حين تنزيلها لسببٍ أو لآخر وفي زمنٍ دون آخر.. على أيّ حالٍ فإنّ ما يمكن قوله هاهنا: إن العدلَ نسبيٌّ ذلك أنّه بشريّ وليس ثَمّ عدل مطلق إلا ما كان من عدل الله جلّ وعزّ.
* الاشتغال «عربياً» على التنادي بـ»الحرية» ليس حفياً بجوهرها إنما هو اشتغالٌ يطول تحسيناتها/ كماليّاتها وآيةُ ذلك ما نشهده مَن محاولة الدفع بـ «الشعوب» نحو اختزال «الحرية» في رفع سقف «الوناسة/ والكيف» بينما يجب أن يكون الدافع لـ «الحرية» عدلٌ ووحقوق كرامة ونقض ما يبرم من استبداد وهو دافعٌ أشدّ وأبقى.. ومما لا ريب فيه أنّ كلّ داعيةٍ لـ «الحرية» إنما ينطلق من مرجعياته – الآيديولوجية – ومن تطلعاته الفكرية والسياسة الأمر الذي أضاع ما يمكن أن يكون محِل اتفاق ما جعلنا لا نكفُّ عن الاستفصال من كل أحد يُحدثنا عن «الحرية» لنقول له: أي حرية تقصد؟!
* ومن البيّن أن اختلاف «مقاصد» من ينادون بـ«الحرية» وتباين تأويلاتهم الأيديولوجية قد طفت على السطح على نحوٍ لافت ذلك أنّ كل طرفٍ يسعى للدفع باتجاه ترسيخ قناعاته (الشخصية/ الحزبية) وتوجّهاته الفكرية وليس من أجل السعي إلى ترسيخ منظومة القيم/ والمبادئ التي تنضوي تحت سقف المعنى العام لـ «الحرية» وبخاصةٍ (العدل) لخلق هُويّة وطنيّة يكون هذا هو شعارها.
* العدل مقصدٌ كونيٌّ قدريّ ودينيٌّ شرعيٌّ ذلك أنّ الله تعالى أقام السموات والأرض على «العدل» كما أقام شريعته على العدل/ وبالعدل ولذا فمقصد «العدل» مقصد كليٌّ إذ ما من بابٍ من أبواب الفقه إلا ويرجع إليه بصورةٍ من الصور.. وليس بخافٍ أنّ الله تعالى «عدل» وهو من أسمائه الحسنى التي طُلب منا أن نتخلّق بها – كما أشار إلى هذا الإمام الخطابي – ذلك أن من أسمائه تعالى أسماء التعلّق/ وأسماء التخلّق.
* لعل ابن تيمية أراد الدولة التي أناطت شؤن سياستها بـ «الحرية» حين وكّد على أنّ «الله تعالى يقيم – ينصر – الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم – ينصر – الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة» بحسبان أنّ «العدل» هو الذي تتمظهر به «الحرية» في أجل صورها ولئن لم يكن ثمة عدلٌ فلا حرية. وحتى لا يُفهم كلام ابن تيمية على خلاف مراده لا مناص من القول: إن ابن تيمية أراد أن العدل خير من الظلم وليست الدولة الكافرة خير من المسلمة وذلك أنّ الدول المسلمة حين لا «تعدل» تتساوى مع «الكافرة» في الظلم وتتغلب الأخيرة عليها بأسبابٍ ماديّةٍ أخرى.
قبل الختم وخشيت أن تكونوا قد نسيتم أذكركم بأنّ «العدل» في الإسلام ذو مفهومٍ «شامل» بينما في المذاهب الحديثة لا يعدو أن يكون جزئياً بوصفه: فلسفة/ أو قيمة.
{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}[النساء:58] {ولاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ}[المائدة:8]
نقلا عن "الشرق"

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up