رئيس التحرير : مشعل العريفي
 فهد الأحمري
فهد الأحمري

العقيدة القطرية

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

(تجارب عصرنا تدل على أن أولئك الأمراء الذين حققوا أعمالا عظيمة هم من لم يصن العهد إلا قليلا، وهم من استطاع أن يؤثر على العقل بما له من مكر، كما استطاعوا التغلب على من جعلوا الأمانة هاديا لهم… فعلى الأمير ألا يحفظ عهدا يكون الوفاء به ضد مصلحته… الذين استطاعوا تقليد الثعلب بمهارة حققوا أفضل نجاح، ولكن لا بد أن تكون قادرا على إخفاء هذه الصفة بمهارة وتستطيع التمويه والخداع، حيث إن البسطاء من الناس على استعداد لقبول أي أمر واقع، ومن يخدعهم سيجد من بينهم من يقبل أن ينخدع بسهولة. ولن أذكر سوى مثال حديث واحد، حيث لم يفعل الإسكندر السادس شيئا سوى التغرير بالناس، فلم يفكر بغير ذلك، فلم يتفوق عليه أحد في قدرته على توفير الضمانات وتأكيد الأمور بالحلف الكاذب، ولم يتفوق عليه أحد في عدم الوفاء بالعهد، وكانت حِيَلُه دائما موفقة تحت أي ظرف، لأنه كان يفهم هذا الأمر جيدا). ما سبق هو من كتاب «الأمير» لنيقولا ميكافيللي المتوفى سنة 1527، كنت قد قرأته من فترة طويلة جدا، غير أنه تبادر لذهني في أزمة قطر الحالية فراجعته ووجدت أن تنظيم الحمدين والأمير الحالي يذاكرونه جيدا حتى استقوا جل ما فيه من سوء مع إغفال ما ورد من ملامح حكيمة رغم ندرتها. حاق بالكتاب سمعة سيئة جدا لما تضمن من خسة ودناءة ومضامين لا أخلاقية مقدمة على شكل نصائح وتوجيهات كهدية من المؤلف إلى حاكم فلورنسا الأمير ميدشي الملقب بـ«لورنزو العظيم». كتاب الأمير اعتبره علماء الأخلاق في بريطانيا وفرنسا كتابا مناسبا -فقط- للطغاة والأشرار، فكان هتلر يضعه على مقربة من سريره، واختاره موسيليني موضوعا لأطروحته في الدكتوراه، وتتلمذ على المؤلف أيضا لينين وستالين وفق أكرم مؤمن ناقل الكتاب للعربية. كنت أتساءل هل يعقل أن يقدّم رجل لحاكم كتابا يوجهه لتجنب طريقة البشر لأنها غير كافية -بحسب تعبيره- وأن يلجأ، غالبا، لطريقة الحيوانات المتوحشة والدنيئة، فيكون أسدا يبطش بالأبرياء هنا وهناك، وثعلبا ماكرا لتنفيذ خطط الدناءة، يوصيه بقتل من يخشاه أو من يتوهم أذيته للحفاظ على ملكه، وأن ينسف جميع أفراد الأسرة المالكة في الولايات التي يستولي عليها، ويغدر بمن شاء ولا يرعى إلاًّ ولا ذمة ولا قربى ولا جوارا. استدل المؤلف على ذلك بقصة «أولفرتو»، الطفل الصغير يتيم الوالدين الذي رعاه خاله «جيوفاني» ثم أرسله ليعمل جنديا حتى يصل لرتبة عسكرية عليا، فلما حصل على الرتبة والقيادة عمل لخاله مكرا كبارا. كتب إليه أنه يود رؤيته ورؤية مدينته، فاستقبله خاله استقبالا عظيما، وآواه هو وضيوفه الفرسان، وبعد مأدبة كبيرة اغتال فيها الحضور، بمن فيهم خاله، وسحق أعيان البلد ليضمن عدم بقاء من ينكر عليه أو يتعاطف مع خاله وولي نعمته، ثم نصب نفسه أميرا على البلدة. يعلق ميكافيللي: «حسن ارتكاب الجريمة القاسية، يمكّن من جني الثمار.. »! والمتابع للعقيدة السياسية القطرية يجد التساوق جليا بين «الأمير» الكتاب و«الأمير» الإنسان. يوم الإثنين 26 يونيو 1995 طبع الأمير حمد قبلة الوداع على جبين أبيه أمير البلاد خليفة المتجه للخارج، غير أنه في صبيحة الثلاثاء غدر بأبيه وأعلن نفسه حاكما على قطر. لم ينته الموقف هنا، بل أصدر الأمير الغادر مذكرة لجلب أبيه إلى الدوحة عبر الإنتربول لمواجهة تهم منها محاولة الانقلاب عليه في فبراير 1996! طال الانتقام قبيلة آل مرة بأكملها، فنزعت الجنسية القطرية عن القبيلة بشكل جماعي، عنهم وعن أولادهم، بل وعن آبائهم وأجدادهم المتوفين بأثر رجعي وطردهم من دورهم وأعمالهم نتيجة عملية الانقلاب الفاشلة من قِبل الأب الأمير خليفة. «الغاية تبرر الوسيلة» هي العقيدة الميكافيلية والأدبيات المرتسمة على من جلس على الكرسي القطري الصغير لتحاول بذل ما لها من سطوة إعلامية ومالية لمكايدة دول الجوار والقضاء عليهم بالدسيسة والخيانة. زرع المستعمرات في عدة أماكن هي أحد الحلول، بل والأفضل، والاحتفاظ بعدد كبير من القوات المسلحة في نفس المستعمرات هو ما يؤكده «الأمير» -الكتاب- في الفصل الثالث، بيد أن الأمر يتعذر تطبيقه على «الأمير» القطري في العصر الحالي، لذا كان البديل هو توظيف التنظيمات الإرهابية في بلدان عديدة ومدها بكل الأشكال ليكونوا قواته المسلحة في الخارج. ولأن «الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة، ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس»، كما يقول المؤلف، لذا عمل تنظيم الحمدين على إجادة هذا التوجه بتوظيف الجماعات الإسلامية وتقريب رموزها، إما بالإقامة في الدوحة أو البقاء في ديارهم مع زيارات متوالية لجناب الأمير، لتحصيل المكافآت المجزية لقاء الخيانة الوطنية من جهة، وتمجيد قطر في خطابهم الوعظي من جهة، لتتمكن من السيطرة على مشاعر السذج من أتباع تلك الرموز الحركية. تُستحضر الحالة القطرية فيُستحضر ميكافيللي بكل عقيدته السياسية ومقولاته الشهيرة، ليس «الغاية تبرر الوسيلة» فحسب، بل «من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك»، «لا يجدي أن يكون المرء شريفا دائما»، «من واجب الأمير أحيانا أن يساند دينا ما ولو كان يعتقد بفساده». وهذه الأخيرة نفذتها قطر مع المحتل الإسرائيلي. الغريب أن الأمير القطري لم يصغ لبعض وصايا وحكم ميكافيللي النيرة والنادرة ومنها، تحذيره من المرتزقة والمأجورين وجنود الحلفاء لأنهم غير مأمونين، فهم ينهبونك وقت السلم وينهبك العدو وقت الحرب، وهم مستعدون أن يكونوا جنودك وقت الأمان فقط، كما يقول المؤلف. ولإزالة إشكالية عدم استفادة أمير الدوحة من بعض الحكم في ثنايا الكتاب، نجد ميكافيللي يتحفنا بإجابة في أقصى الكتاب يصفع بها الأمير الأرعن بعبارة: «إن النصيحة المسداة إلى الأمير غير الحكيم لن تجدي»!..
نقلا عن الوطن

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up