رئيس التحرير : مشعل العريفي
 خالد الدخيل
خالد الدخيل

الفراغ السياسي

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

تتوالد الفراغات كما تتوالد الأفكار والحروب والانتصارات والانكسارات. لذلك ترافق أو سبق الفراغ الأيديولوجي في العالم العربي فراغ سياسي (مقالة الأحد الماضي). أيهما كان السبب في نشأة الآخر؟ الأرجح أن الثاني هو السبب الأهم، وإن لم يكن الوحيد في نشأة الأول. فالأيديولوجيا مفهوم مركب، وموضوع سجالات لا تتوقف، لكنها تعبر في نهاية المطاف عن مصالح، تتقدم في حال الدولة المصالح السياسية على سواها. ومن ثم فإن تراجع الأيديولوجيا في سياسات دولة ما يشير إلى أن المصالح السياسية لهذه الدولة، والتوازنات المؤثرة فيها باتت في مكان آخر. يمكن أن يقال أيضاً إن ارتباك الرؤية الأيديولوجية أربك معه القرار السياسي. ما المقصود بالفراغ السياسي؟ يقال إن العالم العربي لا يملك مشروعاً (سياسياً وفكرياً وتنموياً) لنفسه ولا للمنطقة، وبالتالي خلق فراغاً وأصبح ساحة مفتوحة لمشاريع الآخرين، من أتراك وروس وإيرانيين، وإسرائيليين. وهذا صحيح. لكن قبل غياب المشروع هناك غياب سياسي كبير للدول العربية عما يحصل للعالم العربي، أو هكذا يبدو من مسار الأحداث وتطوراتها. تبدو الدول العربية الكبيرة منها غائبة عن تقرير مصير ومستقبل المنطقة التي تنتمي إليها. يتبدى هذا في ثلاثة مؤشرات كان ينبغي أن تكون مثيرة للقلق. يتعلق المؤشر الأول بسورية. هنا ستلاحظ أن كل من له مصلحة تدخل سياسياً وعسكرياً (معاً) في تقرير مصير الثورة والنظام هناك. هذا ما فعله الأتراك والأميركيون والإيرانيون، والإسرائيليون، ثم الروس. إلا العرب، لم يفعلوا ذلك، كل لسبب يخصه. دعمت بعض الدول العربية المعارضة السورية، لكن هذا تدخل غير مباشر تضاءلت مفاعيله بتراجع دور هذه المعارضة، أو ربما العكس. الآن أهم الأطراف التي لها الصوت الأعلى في تقرير مستقبل سورية ليس بينها طرف عربي واحد، بما في ذلك مصر التي تتعاون في شكل غير معلن مع النظام السوري. وإذا كان هذا مدهشاً أضف إليه حضور الميليشيات في مقابل الغياب العربي، وهي الميليشيات التي جلبتها إيران للعراق وسورية، وبينها ميليشيات غير عربية. ربما انتظر البعض مع هذا الغياب أن يتوقف قلب سورية باعتبار أنه «قلب العروبة النابض». ولا تسأل عن ماذا حصل للنظام هناك الذي سارع باستبدال شعارات حزب البعث بمقاومة «الولي الفقيه» و «ممانعة» الميليشيات. المؤشر الثالث أنه باستثناء الصوت السعودي، يترافق مع الغياب العربي صمت عربي أمام هيمنة إيران في العراق ونفوذها في سورية، وتمدد هذا النفوذ إلى لبنان. قارن هذا بالموقف من إيران أيام الشاه في خمسينات وستينات القرن الماضي. حينها كانت زيارة مسؤول إيراني أي عاصمة عربية تثير احتجاجات تصم الآذان. مع أن إيران لم تحلم آنذاك بالتدخل في أي بلد عربي. حاولت ادعاء السيادة على البحرين وفشلت أمام الموقف الخليجي بقيادة السعودية. الآن يتمدد النفوذ الإيراني، ومعه تتمدد الطائفية، وتنتشر الميليشيات منافسة للدول، وأغلب الدول العربية - باستثناء قلة أبرزها السعودية مرة أخرى - لا ترفع صوتاً في وجه هذه الظاهرة. يقال إنها لا تفعل ذلك تجنباً لإثارة النعرات الطائفية. وهذا عذر ترتاح له طهران لأنه يسمح لها بتمرير ما تريد من تحت أقدام الدول العربية. هي تسرب الطائفية وتنشر الميليشيات ونحن نلتزم الصمت حتى لا نُتهم بنشر الطائفية. لم ينتبه هؤلاء أن الطائفية تكاد تلتهم الجميع، وأنه لا بد من فعل شيء لوقف هذه المهزلة. ما الذي حصل للموقف العربي؟ بل ما الذي حصل للعروبة نفسها؟ إجابة من يعتبرون أنفسهم في فسطاط «الممانعة» معروفة، وتنطلق من قناعات ومصالح طائفية لم تكن تجرؤ على التعبير عن نفسها إلا بعدما وفرت لها إيران في ظل الفراغ العربي غطاء ودعماً لتحالف الأقليات في المنطقة. أما الإجابة الرسمية العربية فلا تزال طي الصمت. والأرجح أن هذا الصمت تغطية لعجز، وتعبير عن تناقض المصالح العربية إزاء ما يحدث. هو ليس قبولاً أو تسليماً بأقدار ما يحدث. وهذا هو مصدر الفراغ السياسي الذي سمح لدول غير عربية، ولميليشيات بعضها ليس عربياً، وبعضها الآخر مرتهن لدولة غير عربية، بأن تكون الأكثر حضوراً وتأثيراً حتى الآن في رسم المستقبل السياسي لأكبر دولتين عربيتين، وبالتالي لمستقبل المنطقة. يقدم الوضع اللبناني وما آل إليه صورة مصغرة لما يمكن أن ينتج من الفراغ على المستوى العربي. في لبنان لا تملك الدولة القرار في شأن سياستها الخارجية، بما في ذلك العلاقة مع الدول العربية وأولها سورية. فقدت حقها في احتكار أدوات العنف والإكراه، وفقدت بالتبعية حقها في السلطة والقرار. لم تعد تملك حتى قرار الحرب والسلم. كل ذلك انتقل إلى «حزب الله»، الميليشيا التي تملك ترسانة من السلاح لا يحلم بها جيش الدولة. كيف حصل ذلك؟ قصة طويلة، تبدأ مع تبني النظام الطائفي الذي أضعف الدولة، وتنتهي حتى الآن بتنصيب حزب طائفي حارساً ووصياً على هذا النظام. المدهش أن هذا التحول بدأ على يد نفوذ «البعث» السوري، لينتهي ويحل محله نفوذ إيراني معادٍ لـ «البعث» لكن ليس لنظام «البعث» تماماً. هل في هذا تناقض؟ نعم. لكن السؤال الأهم: أين كانت الدول العربية مما كان يحدث للبنان؟ حاولت مصر في عهد عبدالناصر، وتلاشت المحاولة بنهاية ذلك العهد. ثم انسحبت مصر، خصوصاً بعد اتفاق كامب ديفيد. حاولت السعودية وحققت نجاحات أكثر، لكنها لم تنتبه مبكراً إلى أن تحالف النظام السوري مع إيران ما بعد الثورة هو تحالف طائفي، وأنه سيؤدي في الأخير إلى إخراج لبنان من دائرته العربية. الآن حتى النفوذ السوري في لبنان تراجع لمصلحة الإيرانيين من خلال «حزب الله» الذي أنشأته طهران تحت مظلة النفوذ السوري. هذا الحزب، كما يعرف الجميع، هويته الرسمية لبنانية، لكن ولاءه الأيديولوجي والسياسي، ومصدر تمويله وتسليحه، وبالتالي ارتباطه الاستراتيجي، مع إيران. كيف نجحت إيران باختراق العالم العربي من شرقه في العراق حتى غربه على ساحل المتوسط في لبنان؟ من خلال نظام «البعث» السوري، وجنون «البعث» العراقي، وإحياء فكرة الأقليات، وتأجيج شعار الإرهاب السنّي. هذا ما يقوله المرشد الإيراني علي خامنئي وحسن نصر الله في بيروت. هم يجاهدون في العالم العربي لمحاربة وهزيمة التكفير السنّي، وليس لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. لكن كل ذلك لم يكن لينجح لولا أن الدول العربية لم تصبح أسيرة لضعفها، ولتاريخها، ما سهل من مهمة شل قدراتها وتحييدها بخدعة المقاومة. الشاهد في كل ذلك أنه من فراغات العالم العربي تسرب كل ما يشكو منه العرب الآن: الإرهاب، والطائفية، والميليشيات، والنفوذ الإيراني، والتدخلات الأجنبية، والصلف الإسرائيلي، وما أسميه بظاهرة الدور القطري. تناولت في هذه المساحة شيئاً عن الفراغ الأيديولوجي، ثم الفراغ السياسي. مما له علاقة مباشرة بالفراغ الأخير غياب فكرة التحالف الاستراتيجي عن العلاقات العربية- العربية. الأمر الذي يسهل انفجار الخلافات العربية، ويجعل من الفراغ السياسي معضلة بنيوية يستغلها خصوم العرب، وتحتاج بالتالي إلى التفكير الجاد في كيفية تجاوزها.
نقلا عن الحياة

arrow up