رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. إبراهيم المطرودي
د. إبراهيم المطرودي

فتنة النساء بين النص وفهم الناس

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

لو جمعتُ طائفة من الناس، وقرأتُ عليهم هذا المتن الذي يرويه البخاري ومسلم وغيرهما، وفيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:" ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"، ثم طلبتُ منهم أن يقدموا ما فهموه منه، ويسعوا في تصوّر المعنى الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُريد إيصاله للأمة، ونقله إليها؛ لكان الغالب أنهم سيقولون قولا قريبا من قول صاحب (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) الذي قال:"يُروى أن الله عز وجل لما خلق المرأة فرح الشيطان فرحا شديدا! وقال: هذه حبالتي التي لا تكاد يخطئني من نصبتها له، وجاء في الحديث:"النساء حبائل الشيطان"! ورُوي:" استعيذوا من شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر"، وقال صلى الله عليه وسلم:"أوثق سلاح إبليس النساء"!.
العيني صاحب عمدة القاري عاش قبل ستة قرون تقريبا، ولم يكن هذا الفارق الزمني الكبير بيننا وبينه مانعا من أن يتشابه فهمه للحديث بفهمنا في القرن الخامس عشر الهجري، فنحن وهو نخضع لثقافة العصر الذي وُجدنا فيه، ونشأنا في أحضانه، ولا يملك إنسان، مهما أُوتيت له من قوة، أن ينزع عن تصورات عصره، وينأى عنها، ومن تسوّل له نفسه ذلك، وتخدعه أمانيه؛ فعليه أن يدفع ضريبة باهظة لهذا النزوع، وتلك الجرأة، وعليه أن يعيش كالقاصية من الغنم، تلك التي تُعرّض نفسها للهلاك بين فكي الذئب.
النساء في عصرنا، وفي عصور تقدمت، دفعن ضريبة فهمنا للنص، وتصورنا له، ولمّا لم يُفرّق الرجل بين النص وفهمه له؛ تكبّدت النساء في تأريخنا كثيرا من الظلم، وصرنا كالعيني وغيره نطلق عليهن بأريحية وهدوء بال "حبائل الشيطان"، وننسى مثلا أن معظم الشعراء الذين يتفاخرون بغزلهم، ويتباهون به، ويسمح العلماء برواية أخبارهم، وتناقل ما قالوه في النساء، كانوا من الرجال!.
من يقرأ تأريخ الرجل والمرأة في الثقافة العربية، ويأخذ عينة من الشعراء، فلا بدّ أن يخرج بأن الرجل كان أكثر الجنسين جرأة على ثقافة المجتمع، وتخريبا لها، بما يقوله من أشعار الغزل، وقصائد الحب، التي قال عنها ابن حزم في رسائله حين الحديث عن تربية الأحداث:" وينبغي أن يتجنّب من الشعر أربعة أضرب؛ أحدها الأغزال الرقيقة، فإنها تحث على الصبابة وتدعو إلى الفتنة، وتحض على الفتوة، وتصرف النفس إلى الخلاعة واللذات" (المجلد الثاني، رسالة مراتب العلوم، 67).
هذا شيء من تأريخ الرجل يدعونا إلى قراءة متن الحديث قراءة مختلفة، ويفتح أمامنا باب النظر في تأريخ البشرية كلها من جديد، وهو نظر كان يحول بيننا وبينه تصوّر الحديث، وفهمنا له؛ إذ فهْم الحديث، وفق تصور العيني وكثير من أهل عصرنا، جعلنا نُسلّم ونخضع ولا نُحاول اكتشاف توافق فهم المتن مع تأريخ الإنسان نفسه، غير أننا حين قرأنا تأريخ الرجل الشاعر وجدناه أكثر فتنة، وأعظم على المجتمع ضررا، وهذا يقودنا إلى معايرة الفهم المتقدم مرة أخرى بتأريخ الإنسان نفسه، تأريخه في ثقافتنا، أو تأريخه في ثقافات الشعوب الأخرى؛ ولولا التحرر من الفهم الشائع ما كان لنا أن نلتفت إلى معنى آخر؛ فقد كاد فهمنا للنص أن يحرمنا من قراءة التأريخ، ويجعلنا نقرأ تأريخنا وتأريخ الإنسان من خلال ذلكم الفهم، وقد كنّا قطعا نظن أننا نقرأ تأريخ الإنسان من خلال قول الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس من خلال فهمنا له، وكاد عدم فصلنا بين الأمرين أن يقودنا إلى عدم اكتشاف تأريخ الإنسان نفسه؛ بحجة أن النص دلّ عليه، وليس بعد دلالة النص من سبيل يسلكه المؤمن.
حين تضع فرضاً علمياً جديدا؛ تكتشف عالما جديدا، هكذا هي حال الباحثين في عالم الفكرة، وحين كان فرضي في فهم الحديث مختلفا، بدأتْ مؤيداته تظهر لي، وتتسلل إلى ذهني، وتُنجدني ذاكرتي بما فيها، وكان كل شيء قبل اختيار هذا الفرض، والميل إليه، مُتجها إلى المعنى الذي يحكيه العيني، ويميل إليه غيره، فما كان يحضر على لساني سوى ما ينصر ذاك المعنى ويؤيده، وكنتُ لا أجد في آفاق ذاكرتي غير أدلة هذا الفهم وحججه، وما أن غيّرت فرضي في فهم متن الحديث حتى انبعثت من عقلي أمور كنتُ نسيتها، وأقبلت إليّ من ذاكرتي خبايا كنتُ غفلت عنها، وحينها عرفتُ العلة وراء رؤية أصحاب الفروض المختلفة أمورا لا يراها غيرهم، بل لا يتأتّى لهم أن يبصروها.
حين شككت في معنى العيني وفهمه للحديث؛ حضرت في ذهني قضية صلاة النساء المؤمنات على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في المسجد، وعادت بي ذاكرتي إلى حديث ابن حزم في محلاه (3/ 139 وما بعدها)، وأدركت أنني أخطأت خطأ كبيرا حين لم أقرأ هذا المتن من خلال سيرة المصطفى، وأيقنتُ وقتها أن فهمنا للنص لا يمنعنا من فهم التأريخ فقط، وإنما يمنعنا من استحضار ما يُخالفه من سيرة نبينا، فعُدتُ إلى حديث ابن حزم، ووجدت فيه أيضا ما يرد معنى العيني، ويُضعفه.
وجدتُ ابن حزم يروي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، ويروي عن ابن عمر حين قال له ابنه بلال: "والله لنمنعهن" أنه أقبل عليه، وسبّه سبا سيئا، ما سمع الراوي من ابن عمر سبا مثله، وقال له:"أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن".
ووجدته ينقل عن نافع عن ابن عمر قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو تركنا هذا الباب للنساء" فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات.
ووجدته يقول عن صلاة النساء في المسجد:"وقد اتفق جميع أهل الأرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنع النساء قط الصلاة معه في مسجده إلى أن مات عليه السلام، ولا الخلفاء الراشدون بعده، فصح أنه عمل غير منسوخ".
لو كان معنى حديث:"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" هو المعنى الذي مال إليه العيني، واستقرّ في ثقافتنا؛ لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام أول من يأمر النساء بترك المساجد، ويحثهن عليه.
ولو كان معناه كذلك؛ لأمرهم بترك ذلكم الباب، وعزم عليهم في تركه لهن، ولم يقل لهم:"لو تركنا هذا الباب للنساء".
ولو فهم الخلفاء الراشدون من الحديث ما فهمه العيني؛ لكانوا أسبق الناس إلى نهي نسائهم، ومنعهن من المساجد، ولما وجدنا ابن عمر يسب ابنه سبا لم يسمع الراوي بمثله قط.
مثل هذه القضايا، ومثلها كثير، تفتح باب السؤال من جديد: هل يملك المسلم المعاصر حق مراجعة الأفهام المنقولة عن سلفه للآيات ومتون الأحاديث؟ وهل يتفضّل الله تعالى على متأخر بما لم يخطر على بال متقدم؟
وهل يحق لمسلم أن يعتقد، قبل البحث والنظر، أنّ له حقا في مخالفة الرواة وأهل الفهم قبله؟
بعض المثقفين يحترز من قراءة النص الديني، ويُحاول أن يدافع عن أي متن صححه الأول محتجا بأن المسائل الدينية لا تخضع للعقل، وأن دخول العقل في هذه الدائرة مخاطرة كبيرة، وعمل غير محسوب النتائج، ولعل من المستحسن أن يعرف هذا المثقف أن جدله حول النص، وسعيه للدفاع بالغيب عنه، ليس نهاية القول؛ فهو ليس مقيدا برواية السابقين له، والمتقدمين عليه فحسب، بل مقيد بأفهامهم لتلك الروايات، وإذا وجد حجة مكرورة في منع العقل من عمله الأساس؛ فما حجته حين يعلم أن المتقدم لم يمنعه من تضعيف ما صُحح فقط، وإنما منعه من أن يكون له فهمه المستقل، وتصوره المختلف للنص؛ يستطيع هذا المثقف وأمثاله أن يُعيدوا على الناس علاقة الدين بالعقل، وعلاقة العلم بالدين، وهو جدل لفظي، لا طائل من ورائه كما يقول النحويون، بيد أن المشكلة العلمية التي يجب أن يصرف هذا المثقف نفسه إليها، ويُرينا موقفه منها؛ هي أن المتقدم الذي روى هذه الروايات، وحكى هذه المتون، هو نفسه الذي فهمها، ونقل الرواية واحتكر فهمها، وهو لم يمنعه من النظر إلى صحتها بعقله فقط، وإنما منعه أن ينظر بعقله إلى تلك الأفهام، فما هو قائل لنا أمام احتكار المتقدم الذي يُدافع عن روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسألة نظرية، تدور حول علاقة الدين بالعقل؟ وما هو قائل حين يعلم أنه يجب عليه أيضا، بناء على تقرير المتقدم نفسه، والشاهد هنا مقولة الفاسي المذكورة في المقال السابق، أن يُدافع بعقله الذي ينتقصه، عن أفهام الأولين للنص، وأن عليه أيضا أن يعترف لهم بالإتيان بكل ما يُمكن للنص أن يبوح به لقارئه؟
وأخيرا؛ فالمتقدم لم يحظر على المتأخر أن يُعيد النظر في صحة المتون وضعفها فحسب، وإنما حظر عليه أن يفهم غير ما فهمه، ويُدرك من النص، قرآنا كان أم متن حديث، سوى ما هُدي إليه؛ فعلى من يتوسّل وضع سياج دون الروايات أن يفعل ذلكم الشيء نفسه مع الأفهام؛ لأن الرواية تدور مع فهمها وجودا وعدما؛ بناء على تقرير المتقدم نفسه. نقلا عن الرياض

arrow up