رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالحميد العمري
عبدالحميد العمري

التستر التجاري .. من أخطر الآفات الاقتصادية «1 - 2»

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

يشكل اتساع وتعمق اقتصاد الظل "التستر التجاري"، واحدا من أكبر التحديات الاقتصادية المحلية في الوقت الراهن. كما يمثل (التستر التجاري) المجرم نظاميا جوهر حياة اقتصاد الظل حسبما تعارفت عليه أدبيات الاقتصاد، يمكن وصفه بسرطان الاقتصادات المعاصرة الذي يستمد حياته واستمرارها من نهش خيرات أي اقتصاد يتواجد فيه، ويمتص عافيته في غياب أو ضعف أدوات الرقابة والسيطرة عليه، وتحت ترهل السياسات الاقتصادية واهتراء الإجراءات المحاربة لمختلف نشاطاته.
اختلفت التقديرات حول حجمه ونسبته للاقتصاد الوطني، نظرا لعدم وجود رصد رسمي دقيق له، إلا أن دراسة ومتابعة عديد من المؤشرات الاقتصادية والمالية، أتاحت نوعا ما فرصة تقدير حجم أنشطة التستر التجاري. ومن تلك المؤشرات الدالة على وجوده ارتفاع نمو الاستهلاك السنوي للكهرباء والمياه مقارنة بمعدل النمو الحقيقي للاقتصاد تتجاوز الضعفين، وهو ما أظهرته متوسطات معدلات النمو خلال الفترة 2009-2014، حيث بلغ متوسط النمو السنوي لاستهلاك المياه 11.1 في المائة، وبلغ للكهرباء 8.9 في المائة، فيما لم يتجاوز متوسط النمو الحقيقي للاقتصاد خلال الفترة نفسها سقف 4.5 في المائة.
أيضا من أهم مؤشراته الدالة على وجوده وتوسع نشاطاته؛ ارتفاع حجم النقد المتداول خارج المصارف التجارية، ويعد لافتا إذا ما أخذت بعين الاعتبار درجة التقدم الكبيرة التي طرأت على أنظمة المدفوعات المحلية، إضافة إلى زيادة الثقة بالتعامل بالشيكات. ويكتسب هذا المؤشر أهميته لما تتصف به تعاملات نشاطات اقتصاد الظل "التستر التجاري" في الغالب من اعتمادها الكبير على التعامل بالنقد (الكاش) مقارنة ببقية التعاملات عبر القنوات المصرفية الحديثة، ووفقا لبيانات مؤسسة النقد وصل النقد خارج المصارف بنهاية يناير 2016 إلى 167.4 مليار ريال (85.4 في المائة من النقد المتداول خارج المؤسسة).
أخيرا وهو الأهم هنا، مراقبة الحوالات السنوية للعمالة الوافدة إلى خارج الحدود، ومقارنتها مع حجم أجورها السنوية، التي يمكن أن تبلور لنا مع المؤشرات المذكورة أعلاه صورة أكثر وضوحا حول حجم اقتصاد الظل "التستر التجاري"، وبمقارنة حجم تلك الحوالات للأعوام الأخيرة (2010-2015) يلاحظ أن حجم تلك الحوالات قد فاق كثيرا أحجام الأجور السنوية المدفوعة لتلك العمالة الوافدة، وصلت مضاعفاتها إلى 1.5 ضعف! إلا أن المقارنة بعد خصم المصروفات المقدرة للاستهلاك المحلي من أجور العمالة الوافدة، على افتراض أنها تشكل في المتوسط نحو 40 في المائة من إجمالي الأجور السنوية، فإن الفروقات (الزيادة في الحوالات) ستزداد دون شك إلى أكثر من ضعف حجم الأموال القابلة للتحويل إلى الخارج! ما يضعنا جميعا أمام السؤال التالي: من أين جاءت هذه الزيادات في الحوالات السنوية مقابل صافي الدخل المتاح للتحويل للخارج؟ والسؤال الآخر: هل هذه فقط الأموال (العابرة للخارج عبر النظام المصرفي) التي تتسرب للخارج، أم أن هناك ما لم تستطع الأرقام الرسمية رصده وتوثيقه؟!
إن تقدير مثل تلك الزيادات للحوالات السنوية مقابل صافي الأجور السنوية، وتوقع أنها قد لا تتجاوز 15 في المائة من حجم النشاطات السنوية للتستر التجاري (الخفي)، يعني بدوره أن حجم نشاط التستر التجاري في بلادنا قد يصل إلى نحو 530 مليار ريال (نحو 22 في المائة الناتج المحلي الإجمالي، وأعلى من 30 في المائة الناتج المحلي غير النفطي)، وهي أرقام بالغة الخطورة حتى مع الأخذ في الاعتبار أن الأرقام الفعلية قد تزيد أو تنقص عن هذا الرقم التقديري بما لا يتجاوز 10 في المائة.
لهذا يتركز الحديث أثناء البحث والتقصي حول أنشطة اقتصاد الظل "التستر التجاري"، ومدى مساهمتها الضارة على مستوى كل من: (1) حرمان مقدرات الاقتصاد الوطني من خلق الوظائف للمواطنين، وتسببها في زيادة معدلات البطالة. (2) زيادة التسرب الاقتصادي والمالي للخارج، عدا أنها تعتبر من أخطر مهددات معايير الجودة، ومستوى الإنتاجية داخل الاقتصاد، ومن ثم إضعاف النمو الاقتصادي وزعزعة مستويات التنمية. (3) تفاقم دورها الأشد ضررا تجاه محاربة رؤوس الأموال الوطنية وتحديدا الصغيرة والمتوسطة منها، وتضييق الخناق على المدخرات الوطنية، وتقليص الفرص والمجالات الاستثمارية المتاحة والمطلوبة لتتحول إلى استثمارات يتم توظيفها في خدمة الاقتصاد والوطن. (4) زيادة معدلات الفقر بين أفراد المجتمع بسبب انعدام التوظيف. (5) كما أن زيادة نشاطات اقتصاد الظل "عمليات التستر التجاري" وما يتبعها بالضرورة من تفاقم أشكال الغش والتدليس، وامتداد أخطارها الكبيرة إلى ما يهدد مختلف جوانب الصحة والبيئة. (6) هذا عدا آثاره الاجتماعية الأخرى السلبية، حينما تتحقق الآثار الاقتصادية والمالية السلبية السالفة الذكر، فلا شك أنه يتبعها الكثير من الآثار السلبية اجتماعيا! فماذا سيتبع انعدام فرص الاستثمار، وفرص العمل، التي ستساهم في رفع مستوى دخل المواطن؟! إلا أن تتسع دوائر البطالة والفقر، وما يتبعهما من أخطار أمنية واجتماعية لا يعلم بآثارها المدمرة إلا الله.
تبدأ محاربة اقتصاد الظل "التستر التجاري" من التعرف على تركزاته داخل اقتصادنا الوطني، ووفقا لعديد من الدراسات والتقارير ونتائج كشف الأجهزة الحكومية لها، فقد أظهرت أنها تتركز في تجارة التجزئة والسلع الاستهلاكية التقليدية "غير المعمرة"، وعمليات التجارة المرتبطة ببيع الفواكه والخضار والسلع الزراعية، والمتاجرة بالذهب والأحجار الكريمة، وتجارة المواشي، وتجارة السلع المعمرة، وأنشطة البناء والتشييد، وقطاع الخدمات كالدعاية والإعلان، وقطاع الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية، وتسويق وبيع برامج الحاسب الآلي ونسخها بصور غير مشروعة، وفي أنشطة البقالات والمحال التجارية الصغيرة والمتوسطة كمحال الحلاقة والسباكة والصيانة الكهربائية والخياطة وغيرها من الأنشطة التجارية الفردية، التي لا تتطلب مهارات عالية. إن ما تقدم ذكره على سبيل المثال لا الحصر حول نشاطات اقتصاد الظل، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه متفش داخليا إلى أبعد مما نتصور، وأن حدود سيطرته تمتد عبر أرجاء المدن والقرى في بلادنا طولا وعرضا.
وأنك حينما تتأكد لديك تلك التصورات أعلاه، فإن مجرد مواجهة الأجهزة الحكومية لدينا في مقدمتها كل من وزارتي التجارة والصناعة والعمل لهذه الآفة المندسة في جسد اقتصادنا، تظل وفقا لما تم حتى تاريخه غير كافية على الإطلاق! وأن المواجهة تتطلب عدة وعتادا يفوق كل ما قامت وتقوم به تلك الجهات، ذلك أنها كما هو واقع في الوقت الراهن لم تستطع تلك الجهود أن تقضي عليه، بل على العكس تماما فلا يزال يتوسع ويتمدد دون كلل أو وهن! فلا بد من جهود أكبر وأوسع يجب أن تسخر للقضاء على هذا الخطر الداهم، وأن يتم إشراك المواطن فيه من الألف إلى الياء، فكما أن المواطن هو ضحيته الأولى، فالمواطن أيضا هو الأداة التي يستخدمها المتستر الوافد لاختراق الاقتصاد الوطني، والتورط في كل ما تقدم ذكره من جرائم وويلات وكوارث! وهو ما سيكون حديثا ذا صلة في المقال القادم بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق. نقلا عن الاقتصادية

arrow up