رئيس التحرير : مشعل العريفي
 أ.د.صالح بن سبعان
أ.د.صالح بن سبعان

ضحايا المكابرة !؟

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

تابع صحيفة" المرصد" عبر تطبيق شامل الاخباري

https://shamel.org/panner

قال لي وهو يكاد يبكي حزناً وقهراً، بأنه يعشق التصميم -علماً وفناً- ويجد فيه نفسه، ويتمنى أن يتخصص فيه جامعياً، وأن يبحر فيه تحصيلاً وممارسة حتى آخر يوم في حياته، إلا أن والده -غفر الله له- أصر إصراراً عظيماً عليه أن يتجه إلى دراسة الطب، الذي لا يحبه ولا يجد فيه نفسه. مثل هذه المواقف كثيراً ما نجدها في بيوتنا وهي آخذة في الانتشار، وقد استوقفتني مثل هذه الحالات. ودائماً ما كنت -بقدر تعاطفي مع ضحايا مثل هذه المكابرة- أتعجب من هؤلاء الآباء الذين يسعون بإلحاح لأن يصيغوا أبناءهم وبناتهم وفق نمط ونموذج وصورة في أذهانهم، فيتدخلون بلا هوادة في توجيه مسارهم وجهة لا يرغبونها، أو لا يعلم هؤلاء أنهم بذلك إنما يصادرون حقاً من أصل حقوق الإنسان لأن يكون ما يرغب، وفي حقه بأن يختار التخصص والعمل الذي يرغب فيه ويحبه ويشبعه نفسياً وروحياً؟ أو لا يعلمون أنهم بصنيعهم وتدخلهم هذا إنما يسحقون شخصية ابنهم رجلاً، ويسلبونه الإرادة والاستقلال، ويقتلون فيه روح المبادرة وقوة الشخصية. وأكاد أجزم أن آباء مثل هؤلاء يفعلون هذا تعويضاً عن خيباتهم الخاصة، إذ ربما كان حلم أحدهم أن يكون طبيباً ولكنه فشل في تحقيق حلمه، والآن يريد لابنه أن يحقق له ما فشل هو في تحقيقه، دون أن يسأل نفسه ما إذا كان حلمه هذا هو أيضاً حلم ابنه أم لا، أو ربما هو يريد أن يخلق من ابنه صورة أخرى منه، أي يريد أن يستنسخ نفسه في ابنه، دون أن يسأل نفسه ما إذا كانت هذه هي رغبة ابنه أم أن لابنه تصوراً خاصاً لما يريد أن يكون! أتدري ما هي بعض نتائج مثل هذا السلوك؟ أغلب الظن -طالما أن بعضه فقط إِثم- أن هذا الابن لن يكون طبيباً- أو أياً كانت المهنة التي أجبر على التخصص في دراستها، وبين يدينا الكثير من الشواهد التي تدل على أن بعض الدول الشقيقة التي اشتهرت بتخريج كم هائل من الأطباء يشكلون النسبة الأعلى بين الفاشلين من الأطباء العاملين في المملكة، من حيث كم الأخطاء الطبية وكوارثها، وأيضاً من حيث عدد الشهادات المزورة في حقلي الطب والتمريض.. وإذا بحثنا عن السر في ذلك فستجد أن واحدة من أهم الأسباب هي أن هذا التخصص يخضع للاعتبارات الاجتماعية أكثر منه للاعتبارات العلمية، وقد انتقل إلينا هذا المرض هنا، إذ نجد أن الجميع يبذلون ما في وسعهم للالتحاق بهذه الكلية لا لشيء إلا للمباهاة الاجتماعية وقد دخلت التخصصات الأكاديمية في هذا المزاد الاجتماعي، وأصبحت مجالاً للتنافس الاجتماعي بين الآباء، فـ«ابن فلان دخل كلية كذا، ولست بأقل شأناً من أبيه لذا يجب أن يدخلها ابني»! وستجد في هذا منطقاً غريباً، إلا أن نتائجه، إذ ما خصمنا سلبياته على المجتمع ككل، حيث يكثر بيننا من لا يجيدون ما ندبوا أنفسهم إليه، وأهدروا السنوات من عمرهم في تحصيله، ستجد أن عدد المحبطين والقلقين بين شبابنا في تزايد مستمر، وستجد أغلبهم مسلوب الإرادة، يكبت مشاعره، ويلوك بصمت قهره وحزنه. وإلا ماذا تتوقع من شاب حُرم من تحقيق أحلامه رغم قدرته على تحقيقها، ورغم تمتعه بكل المقومات والإمكانيات التي تتيح له تحقيقها بعد أن أُجبر على التنازل عن أحلامه وعن مستقبله؟! ما الذي تتوقعه منه وقد نسينا أنه إنسان، ومشروع رجل حر له رغباته وله أحلامه المستقلة، والخاصة به وحده؟! فلنكف عن استنساخ أنفسنا في أبنائنا.. ولنتخل عن هذه الأنانية، لنساعدهم على تحقيق وتطوير ملكاتهم ومواهبهم وتفجير طاقاتهم.

arrow up