رئيس التحرير : مشعل العريفي
 خالد السيف
خالد السيف

حين تغلِب السياسةُ الفقهَ فيصير تابعاً لها..!!

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

احتاج الخليفة الثامن لبني أمية – في الأندلس (عبدالرحمن الناصر) إلى تعويض أرض قبالة منزله يجعلها متنزها كانت حبسا توضع فيها الأزبال. (النفايات) فراود الفقهاء في أن يعوضها بأحسن منها بكثير ثمنا وغلة، فامتنعوا كليا، فلما أيس منهم، بعث إليهم وقاضيه ابن بقي معهم الذي هو رئيسهم، وخرج إليهم بعض وزرائه موبخا لهم بقوله: يقول أمير المؤمنين: يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا أكلة أموال الأيتام ظلما، يا شهداء الزور، يا آخذي الرشا، وملقني الخصوم، وملحقي الشرور، وملبسي الأمور، وملتمسي الروايات لاتباع الشهوات تباً لكم ولآرائكم، فهو -أعزه الله- واقف على فسوقكم قديما وخونكم الأمانة، مغض عنكم صابرا، ثم احتاج إلى دقة نظركم في حاجته مرة في دهره، فلم يسع نظركم للتحليل عليه ما كان هذا ظنه فيكم، ليقارضنكم من يومه، وليكشفن ستوركم، وليناصحن الإسلام فيكم، وكلاما في مثل هذا. فبدر منهم شيخ ضعيف المنة إلى الاعتراف، واللياذ بالعفو والاستقالة والتوبة، فالتفت إليه كبيرهم محمد بن إبراهيم بن حيونة وكان ذا منة، فقال: عم تتوب يا شيخ السوء نحن براء إلى الله من مقامك، ثم أقبل على الوزير المخاطب لهم، فقال: بئس المُبلِّغ أنت، وكل ما ذكرته على أمير المؤمنين مما نسبته إلينا، فهو صفتكم معاشر خدمته أنتم الذين تأكلون أموال الناس بالباطل، وتستحلون ظلمهم بالإخافة، وتجيعون معايشهم بالرشا والمصانعة، وتبغون في الأرض بغير الحق، أما نحن، فليست هذه صفاتنا ولا كرامة لا يقوله لنا إلا متهم في دينه، فنحن أعلام الهدى، وسرج الظلمة بنا يتحصن الإسلام، ويفرق بين الحلال والحرام، وتنفذ الأحكام، وبنا تقام الفرائش، وتثبت الحقوق، وتحصن الدماء، وتستحل الفروج، فهلا إذ عتب أمير المؤمنين بشيء لا ذنب فيه لنا وقال بالغيظ ما قاله تأنيت بإبلاغنا، وسألته بأهون من إفحاشك، وعرضت لنا بإنكاره، ففهمنا عنك، وأجبناك عنه بما يجب، فكنت تزين على السلطان، ولا تفشي سره، وتستحيينا قليلا، فلا تقابلنا بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين أيده الله لا يتمادى على هذا الرأي فينا، وأنه سيراجع بصيرته في تعزيزنا، فلو كنا عنده على الحال التي وصفتها عنه -ونعوذ بالله من ذلك- لبطل عليه كل ما صنعه وعقده وحله من أول خلافته إلى هذا الوقت، فما ثبت له كتاب حرب ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس، ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا..هذا ما عندنا والسلام. ثم قام وتبعه أصحابه منصرفين، فوجّه من ردّهم وأكرمهم، وجبر خواطرهم، واعتذر عما فعله الوزير، وأمر لهم بكسوة وصلة لكل واحد علامة رضاه عنهم، وانصرفوا. وكان أحد الفقهاء وهو «محمد بن يحيى بن لبابة» معزولا عن الشورى، فبعث للسلطان يقول: لو لم أكن معزولا لترخصت لمولانا وأفتيته بالجواز، وتقلدت ذلك، وناظرتهم بالحجة، فقد حجّروا واسعا، فرده الناصر للشورى، ثم رفع إليهم المسألة ثانية، فأصر الجميع على المنع – أي: قالوا بنفس موقفهم السابق وأصرّوا على حرمة ذلك -، وتصدّى لهم ابن لبابة فقال: إن قول مالك هو الذي قاله الفقهاء، وأما العراقيون فلا يجيزون الحبس -يعني الوقف- أصلا وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وحيث دعت الحاجة أمير المؤمنين، فما ينبغي أن يرد عليه، وله في المسألة فسحة وأنا أقول بقول العراقيين، وأتقلد ذلك. فقال الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، ومضوا عليه، واعتقدناه وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه، فقال ابن لبابة: ناشدتكم الله ألم تنزل بأحدكم ملمّة بلغت بكم إلى الأخذ بقول غير مالك ترخصا لأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: فأمير المؤمنين أولى، فسكتوا فقال للقاضي: أبلغ/ أوصل إلى أمير المؤمنين فُتْياي، فجاء جوابه بتنفيذ فتوى ابن لبابة، وعوض بأملاك عظيمة القدر تزيد أضعافا، وتولى ابن لبابة خطة الوثائق، وعقد المعاوضة، وأمضى القاضي فتواه، وحكم بها، فلم يزل متقلدا خطتي الشورى والوثائق إلى أن مات رحمه الله سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة ومنزلته كما هي لطيفة من السلطان». انتهت الحكاية -الحدوتة- التي ليست هي استثناءً لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل إذ ستتكرّر تِباعاً وبذات «السيناريو» المعروف سلفاً متى ما توافر المشهد على أدوات «بيع الذّمم»!! وبشيءٍ من اختلافٍ يسير قد يطرأ على «ديكور مسرح الحدث» تغييرات يفرضها سعر برميل النفط.. وبما أنّ الموسيقى «حرام» فستكون الموسيقى التصويريّة المصاحبة لفصول لمسرحية آهات – بشرية – ممزوجة بأصوات جلجلة «دراهم و دنانير».. في حين يبقى البطل «النجم» الفقيه حافظ المتون ومُحشي الهوامش – يوطوط بذيله – في بلاط الخلافة يبتغي إلى ذي «السلطان» سبيلا! لا جرم أنّ جملة فقهاء الأمة في سالف الزمان كانوا هم «الفقراء» فخشي «فقهاء زماننا» أن يرثوا عنهم الفقه والفقر معاً وبما أنهم من «أهل الدنيا» فهم بالضرورة لا يلدغون من جحر الفقر مرتين فتفتّقت عقليتهم عن «الحيل» التي جعلت من «الفقه» الطريق المختصر للثروة والقصور والعيش في حبور! هامش القصة منقولة بحرفها من كتاب الفكر السامي للحجوي الذي بدوره صاغها بأسلوبه مختصراً إياها من كتاب «المدارك» للقاضي عيّاض. ثم علّق عليها الحجوي بقوله «وما وقع من الناصر دليل أحوال ذلك الوقت، وإن السياسة غلبت الفقه، فصار تابعها لها على أنه أفضل من كل أمير بعده إلى زمن يوسف بن تاشفين». نقلا عن الشرق

arrow up