رئيس التحرير : مشعل العريفي
 فهد الأحمري
فهد الأحمري

الغيرة وطبيعة النفس البشرية

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

لأول وهلة سمعت عبارة "غيرة التيوس عند طلاب العلم" كانت من أحد الوعاظ، وهو يحث الناس، مجتهدا، على الدعوة والخروج في سبيل الله مع جماعته وعدم الالتفات للقاعدين عن نصرة الدين حتى لو كان ذلك القعود في طلب العلم، ومما قاله إن هذه الفئة "طلاب العلم" كالتيوس في الزريبة، تتناحر فيما بينها بينما الذئاب تترصد بها. تفاجأت من هذا التعبير، وظننته مازحا حتى تبين لي أنه كان جادا. مفاد حديثه أن غيرة طلاب الحديث فيما بينهم أشد من غيرة التيوس في الزريبة، ويستدل بالأثر المروي عن بن عباس وغيره. انقبضت من المتحدث وشككت في مصداقية ما يقول، حيث كنت حينها للتو بدأت أنسحب من هذه الجماعة الدعوية متجها صوب طلب العلم الشرعي وبالأخص، علم الحديث، الذي كنت مولعا به نظرا لمصطلحاته العديدة والغريبة التي عزمت على فك شفراتها. الرواية والدراية، السند والمتن، المتواتر والمرفوع والموقوف، مفردات استوقفتني وشدت نهم الاستكشاف العلمي لدي، مما جعلني أقدم على مواجهة التحدي. يومها لم يكن هناك أي نوع من شبكات الاتصال المتوفرة اليوم، لا شبكة عنكبوتية ولا فضائيات ولا جوالات، وليس في مدينتي النائية أصحاب علم بالحديث تثنى عندهم الركب. توصلت لمشروعي في تفكيك الشفرات الحديثية المذهلة عن طريق اقتناء كتب متخصصة وأشرطة كاسيت علمية، غير أن قضية "التيوس" تلك، ما زالت عالقة في ذهني. وفي هذا السياق، وصلت إلى باب علم الجرح والتعديل ويسمى أيضا "علم الرجال"، رغم أن في هذا العلم نساء! على أية حال، فهو علم يعنى بتشخيص رواة الحديث ليتم من خلال ذلك التشخيص الحكم بصحة الرواية من عدمها. هذا الباب الفرعي في علم الحديث هو مما تفردت به الحضارة الإسلامية، بغض النظر عن دقته والخلاف الواسع فيه. وقد أشاد به مستشرقون كُثر مثل الإنجليزي"مرجليويث" الأستاذ في جامعة أكسفورد في قوله المشهور "ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم". وثمن هذا العلم الألماني فرانتز روزنتال الأستاذ في جامعة بنسلفانيا في كتابه "مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي". وغيرهم كثر. وعلى خطى التحصيل في علم "الجرح والتعديل" المذكور، وجدت رواية "غيرة التيوس". قال شعبة بن الحجاج في كتاب الكفاية في الرواية: "احذروا غيرة أصحاب الحديث بعضهم على بعض، فلهم أشد غيرة من التيوس". ونقل بن عبدالبر في "كتاب العلم" عن ابن عباس قوله: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده هم أشد تغايرا من التيوس في زروبها". تذكرت حينها الواعظ الأول الذي انقبضت منه حين نقل لنا هذا الكلام عن بعض الفقهاء وطلاب علم الحديث، وخمّنت أنه ربما كانت الغيرة التي حملته على تحذيرنا منهم لاختلاف توجه الواعظ عن طالب العلم. العرب، وبالأخص البادية، كانت تصف وتضرب الأمثال بحسب الطبيعة المحيطة حولها، وكان تشبيه الإنسان بالحيوان محل مدح في حالات عديدة. روي عن الشاعر علي بن الجهم في مدح الخليفة العباسي المتوكل: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قِراع الخطوب أنت كالدلو لا عدمناك دلواً من كبار الدلا كثير الذنوب أحمد بن إسحاق السرماري، أثنى عليه البخاري وروى عنه في صحيحه. ذكر عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء قوله: (ينبغي لقائد الغزاة أن تكون فيه عشر خصال: أن يكون في قلب الأسد لا يجبن، وفي كبر النمر لا يتواضع، وفي شجاعة الدب يقتل بجوارحه كلها، وفي حملة الخنزير لا يولي دبره، وفي غارة الذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أكثر من وزنها، وفي الثبات كالصخر، وفي الصبر كالحمار، وفي الوقاحة كالكلب لو دخل صيده النار لدخل خلفه، وفي التماس الفرصة كالديك). وعلى هذا، فإن الحكم على القول أو الفعل يتطلب النظر في العصر الذي كان فيه والبيئة المحيطة بذلك الزمن. وبالتالي فإن قول ابن عباس -رضي الله عنهما- عن غيرة التيوس لا تعني بالضرورة قدحا بقدر ما هو توصيف مصاحب لعصره لغيرة طلاب العلم الشديدة فيما بينهم. وإذا كان هذا كلام ابن عباس في ذلك الحين عن هذه الفئة واشتداد الغيرة في أوساطهم، فما بالك في زمننا هذا، وقد شاهدنا الصراعات الفكرية بين أصحاب المذهب الواحد، فضلا عن المذاهب المختلفة. النفس البشرية مهما كان شأنها تبقى لديها مكونات النقص، ومنها الغيرة والحسد، ولهذا قيل "ما خلا جسد من حسد". والحسد قد يبدأ بالغيرة، فهي فطرة في الإنسان، غير أن القضية نسبية، وتعتمد على قدرات الفرد ومهاراته الشخصية في التحكم فيها ودفعها، ترفعا عنها وتسليما لقضاء الخالق في توزيع أرزاقه على من يشاء.
نقلا عن الوطن

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up