رئيس التحرير : مشعل العريفي
 محمد علي المحمود
محمد علي المحمود

نهاية داعش وانهيار أحلام المتأسلمين

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

ينعقد الإجماع الأممي اليومَ، وبإرادة واقعية/عملية، على ضرورة التخلّص من هذا التنظيم الإرهابي المتوحش (داعش)، الذي تطور إلى أن أخذ شكل دولة تحتل أجزاء كبيرة من سورية والعراق. ثمة توافق - حتى بين المختلفين، وربما الأعداء - على أن هذا التنظيم أصبح خطرا على الجميع بلا استثناء، وأن إجهاض مشروعه - بأي ثمن -، هو خطوة أولى لتحقيق الأمن والاستقرار. وبالمقابل، أدرك الجميع بوضوح أن بقاءه فاعلا سيغذّي – ولو على المستوى الرمزي – تطلعات الإرهابيين في كل مكان، وسيغريهم بالمزيد من الأعمال الإرهابية، بل وسيؤدي دورا محوريا في تنمية وتنشيط إرادة الإرهاب في قلوب وعقول الملايين من أولئك الشباب الذين يتوفرون على الاستعداد الفكري والنفسي والبيئي للانخراط في عالم الإرهاب.
إذا لم تكن نهاية داعش المرتقبة هي نهاية الإرهاب، فإنها – بلا ريب – نهاية حلقة أساسية من حلقات التشكل الإرهابي فكرا وسلوكا؛ ذلك أن تنظيم داعش ليس مجرد تنظيم يتجسّد دولة على أرض الواقع، وإنما هو حُلُم أممي يتمدد على مساحة الوعي الإسلامي المأزوم، خاصة بعد أن وصل الحُلُم إلى أعلى مراتبه الفانتازية بالإعلان عن الخليفة المزعوم للمسلمين، هذا (الخليفة!) الذي أصبح المرجع الرسمي/الرمزي للإرهابيين؛ ما يعني أن سقوط هذا التنظيم وتبدده، ونفوق هذا الخليفة المزعوم، لن تكون نهاية تنظيم إرهابي فحسب، بل – إضافة إلى ذلك - ستكون نهاية «الثيمة» التي تحرك الوعي المتأسلم منذ تسعين عاما (منذ إلغاء الخلافة عام 1924مـ)، وتمده بالطاقة المعنوية الهائلة التي تمنحه القدرة على الصمود في وجه الواقع المعاند، بل وتشعل فيه جمرة الحياة؛ فتبعثه حيا من بين الرماد بعد كل فترة من فترات الخمود.
داعش تعكس – ولو بالادعاء - حلم الخلافة، ونظرية الخلافة تحتل مكانة مركزية في الوعي التراثي السني؛ مثلما تحتل نظرية الإمامة مكانة مركزية في الوعي التراثي الشيعي. الخلافة السنية هي إمامة في جوهر تصوّرها؛ مثلما أن الإمامة الشيعية خلافة في تمظهرها العملي. وهذا يعني أن مُجمل التراث الإسلامي (الذي تستوعبه المنظومة السنية بأطيافها، والمنظومة الشيعية بتفريعاتها)، متضافر على تأكيد وترسيخ هذه المركزية التي أشعلت وأشغلت الواقع التاريخي؛ مثلما ألهبت المخيال العام ونفخت في الأحلام، على امتداد أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام.
وبما أن العالم الإسلامي - بكل مذاهبه وطوائفه - لا يزال إلى هذه اللحظة يؤسس (وعيه المعاصر) على هذا التراث المتجذر في الأعماق، فقد أصبحت مشروعية الحاضر تستمد كل مقوماتها الأساسية من مشروعية الماضي.
المسلم المتدين اليوم، سنيا كان أو شيعيا، ينظر إلى واقعه بعيون تراثه، بل ويعيش تراثه مغتربا عن واقعه، عن الواقع الذي ينظر إليه ولكنه لا يراه. هذا هو واقعنا الذي يأسره تراث الماضي، ولا يتحرر من هذه الماضوية الخلافية/الإمامية إلا مَنْ تحرّر من أسر هذا التراث الطويل؛ و»قليل ما هم»، فالمتحرر من هذا الأسر (مُتّهمٌ بالوطنية القطرية)؛ من حيث هو مُتّهم بالتغريب، التغريب الذي يقف وراء التأسيس العملي لواقع الوطن القطري؛ مثلما هو التغريب الذي يؤسس للنظرية السياسية الحديثة التي هي المرجع النظري لقطرية الأوطان.
إذن، المشروعية التي يمنحها هذا المُتديّن الماضوي لهذا الواقع المتجرد من شرعية الخلافة/الإمامة، هي مشروعية باهتة، هي – كما يزعم صراحة أو ضمنا - مشروعية ضرورة، هي حالة طوارئ، هي خضوع الجوارح فقط، هي – في تصوره الأعمق - ظرف نشاز، واستثناء عابر ينتظر زواله في أقرب فرصة؛ ليرسو على شاطئ الأمان الممتد على مساحة الأوهام التاريخية التي تغذي أحلام اليقظة البائسة في مجتمعات المتخلفين.
كل صور التنظير المُسيّس التي تُطرح من زوايا دينية لتشريع وقائع راهنة، تعتمد مبدأ الضرورة؛ للخروج من التناقض: تناقض الواقع بمكوناته الاضطرارية مع التنظير التاريخي لمسألة الخلافة/الإمامة. وهنا، لا يختلف الخميني الشيعي عن الشيخ التقليدي السني إلا في مرجعية الاستدلال، لا في منطق الاستدلال، فالخميني لم يطرح (ولاية الفقيه) كخروج على التقليد الإمامي الراسخ إلا بتوسّل مبدأ الضرورة. وقد صرّح الخميني في تبريره لمشروعية هذه الولاية، أن حالة الانتظار طالت، وقد تطول إلى ما لا يعلمه إلا الله، وليس من المعقول الجمود على حالة الانتظار وتعطيل الأحكام طوال هذه الحِقَب المتطاولة. ومن هنا، تقتضي الضرورة – كما يؤكد – أن ينوب الفقيه العَدْل الجامع للشرائط عن الإمام الحق المعصوم؛ كحالة استثناء عابر، استثناء اضطراري، يقطع – من حيث يصل!- خط الحضور المتصل - ضرورة عقدية - للإمامة ذاتها كحجة على الناس.
طبعا، الشيخ التقليدي السني كأخيه الشيعي، لا يختلف عن هذا في التبرير لواقع لا يراه مشروعا أصالة، إذ كلاهما تراثي الرؤية في النهاية. حتى الشيخ التقليدي الذي لا يتوفر على أية ملامح ثورية، والذي يؤكد دائما - وبقوة - ضرورة الالتزام بأنظمة الدولة القطرية وطاعتها، لا يؤكد المشروعية القطرية أصالة، وإنما يؤكدها كحالة ضرورة فحسب، بدليل أن تأكيداته في هذا السياق كثيرا ما يتم تدعيمها بخطورة الافتراق والخوف من الفتنة و..إلخ ضرورات الواقع التي يهرب بها من شرط غياب الخلافة، الخلافة التي هي الإمامة العظمى الناظمة – في تصوره التراثي، وتصور كل التراثيين – للمشروعية السلطانية بكل تفاصيلها، والتي تتضمن شرائط لا يرى أي تراثي إمكانية توفّرها في الدولة الحديثة/الدولة القطرية/دولة القطر الجغرافي الواحد، الدولة المستقلة بهويتها السياسية استقلالا تاما عن شركاء الدين وشركاء المذهب وشركاء اللغة الواحدة وشركاء العرق المتوهم نقاء.
من هنا، فإن كل الحركات السياسية المتأسلمة، بل وكل التيارات الإيديولوجية المتأسلمة، لم تنشأ أصلا إلا على مبدأ نزع المشروعية عن الواقع لصالح التاريخ. وحتى تلك الأدبيات ذات الطابع الجمودي، اللاّحركي، تتضمن يقينا – بحكم الضرورة العقدية - هذا المنزع الرفضي.
وبدهي أن كل الحركات المتأسلمة تتكئ على هذا المنزع الرفضي في تأكيد رؤيتها الأممية المناهضة للقطرية، فالتقليدية الحركية الثورية تقول صراحة ما تقوله التقليدية السلبية تضمينا.
في مضمون كل حراك سياسي متأسلم، تكمن إرادة ضمنية لنزع المشروعية عن الدول/الأنظمة القطرية التي لها وجود حقيقي، راهن ومتعين، لصالح خلافة أممية، خلافة متوهمة، ولكنها متحققة يقينا في صميم الوجدان. كل الحركات الأصولية هي في الأصل حركات سياسية؛ مهما رَفعت من شعارات ذات طابع ديني. وهذا يعني أنها – بالضرورة - تطرح بديلا سياسيا لواقع سياسي.
لا يمكن أن تتشرعن هذه الحركات والتيارات حتى أمام ضمائر رموزها، فضلا عن أتباعها؛ إلا بنفي المشروعية الدينية الأصلية عن كل الكيانات القطرية التي ترى (هذه الحركات) أن وجودها مناهض – بالقوة، وبالفعل - للمشروع الأممي الطموح، المشروع الحلم، المشروع الذي هو المعيار الصوابي الأمثل؛ في مقابل الأخطاء/الأوطان!.
وفي هذا المضمار، لا يستطيع الخطاب الوطني القطري الذي لا يتجاوز عمره قرنا ونصف القرن؛ حتى في أعرق القطريات العربية، أن ينافس المخيال التاريخي الذي يستمد مشروعيته من ثلاثة عشر قرنا من الممارسة المقرونة بالتنظير الفقهي الذي يمنحها – في تاريخها وحاضرها ومستقبلها - قداسة الصواب الديني.
إن الفقيه عبر القرون، بقدر ما كان يسرد مقولاته الشرعية/السياسية في الإمامة وما يتفرع عنها - تحت ضغط ضرورة الشرعنة لواقع أممي رآه أو سمع به -؛ بقدر ما كان يصنع مَعالم حلم مستقبلي يتمنى تحققه في الواقع بكل جوارحه؛ هروبا من واقع دُوَيْلاتي احترابي، خاصة وأن غالب ما كُتب في هذا المضمار كان محايثا أو تاليا لضعف السلطة المركزية في بغداد القرون الوسطى الإسلامية، وشيوع الاضطرابات الكبرى التي كانت تأخذ صورة الحروب الأهلية في كثير من الأحيان.
هكذا تبدو صورة الخلافة خلابة للألباب؛ إذ تستمد مكوناتها من حقائق، ومن أوهام، ومن أحلام. ثمّة حقائق بلا شك، ولكنها مرتبطة بشروط تاريخية يستحيل أن تتكرر. وثمة أوهام صنعها الفقهاء والمؤرخون والقُصّاص عن هذه الخلافة، وكتبها من بعدهم البائسون - بأشواقهم - عن العصر الذهبي/الزمن الجميل. ومن بين الحقائق والأوهام، تتخلق الأحلام، ثم تتضخم، إلى أن تصل درجة الهوس الجنوني الصريح؛ فتصبح أشد الجماعات الإنسانية بؤسا وتشرذما وتخلفا وجهلا وضعفا وانحطاطا..إلخ، تحلم – على نحو صريح مسطور في آلاف الكتب التنظيرية - بأن تسود العالم (أو كما يقول سيد قطب، وأخوه محمد: قيادة البشرية) وتتحكم في كل مساراته بعد تحقق «التمكين».
نعم، تحلم هذه الجماعات أن تسود بتخلفها العالمَ كله، في السياسة، وفي العلم، وفي الاقتصاد، وحتى في الآداب والفنون (ومُختَرع الأدب الإخواني: «الأدب الإسلامي»، يزعمون له أنه أفضل وأجمل وأنقى وأطهر ما يمكن أن تكون عليه الآداب والفنون!!).
نحن إذ ننقد كل ذلك لا نمارس حجرا على الأحلام. يحق لكل أحد أن يحلم، وأحلام اليقظة ليست حراما. لكن، عندما تنتقل أحلام اليقظة من نطاق التسليات الفردية إلى نطاق التنظيمات الحركية التي تقود الجماهير إلى الجحيم، ومن ثم الأوطان إلى الدمار؛ فحينذٍ تصبح حراما، بل وجريمة بحق ملايين المنكوبين المُصدّقين بأن هذه الأحلام هي مستقبلهم وهي – في الوقت نفسه - مستقبل الإسلام.
إن خطاب الخلافة خطاب خرافي حالم، يُرضي غرور الذات عن ماضيها وأصولها، ويعد بالمعجزات في المستقبل، والأهم أنه يعد بمعجزة توحيد كل الأقطار/الأوطان الإسلامية تحت سلطة واعظ تقليدي (نسخة سنية للولي الفقيه) يحكم بإرادته المتفردة كل العالم الإسلامي، ويُعين ولاته على الأمصار من بقية الوعاظ التقليديين. والجماهير التقليدية بطبيعتها تستجيب لمثل هذا الخطاب؛ لأنها لا تستطيع التفكير، ولا تعمل بتنظيم، ولا تحتمل العمل الجاد، ولا تطيق الصبر وانتظار النتائج. ولهذا تستولي عليها الوعود الإعجازية التي تتوهم أنها ستنقلها في لحظات سحرية من حال إلى حال؛ دون تفكير، ودون عمل جاد، ودون انتظار طويل.
في المقابل، نجد الخطابَ العقلاني خطاباً لا يرضي غرور الذات، بل يصدمها حتى بأجمل أوهامها عن تاريخها، ولا يعدها بمعجزات، بل يشرح لها الواقع كما هو، ويكشف لها عن علله المستعصية، ويضع لها الخطط طويلة الأمد التي تستوجب التفكير المرهق والعمل المنظم والجاد..إلخ.
وهذا ما يكرهه التقليدي من أعماقه، فعقله/وعيه مَوْسمي، اعتاد على ما تجود به الطبيعة من غير جهد ولا تفكير. لهذا، يُحبّ التقليديُّ الناطقين بلسان المعجزة والخرافة، إنه يعشق الذين يُوحُون له أن البشر مسخرون له؛ لتحقيق رفاهيته ببركة أصوله ومعتقداته، أي أنهم يرضون ميله الطبيعي إلى الكسل والخمول، ولا يطالبونه بأي عمل جاد، بل يكفي – كما يزعمون؛ فيصدقهم - أن يؤمن بمواعظهم لتتحقق له أعظم المعجزات. وطبعا، في مثل هذا السياق، من الطبيعي أن يكره الناطقين بلسان العقل، أولئك الذين يربطون له واقعه البائس بطبيعة تفكيره وطريقة عمله، أي الذين يُحمّلونه مسؤولية مصيره، ويقولون له إن واقعك البائس، إنما هو بما كسبت يداك، ولن يتغير هذا الواقع إلا بأن تفكر بشكل مختلف، وتعمل بجد وإخلاص، ومن بعد، لن تُحقّق أي معجزة، بل فقط، ستحقق تقدما بطيئا ومطردا، ربما لا تظهر نتائجه الباهرة إلا بعد عدة أجيال. نقلا عن الرياض

arrow up