رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالله الرشيد
عبدالله الرشيد

الطب النبوي بين ابن القيم وابن خلدون

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

دأب كثير من المحدثين على تصنيف مؤلفاتهم في أبواب ومواضيع مستقلة، وجمع الروايات والآثار والأقوال الواردة تحت هذا الباب، ومن ذلك التصنيف في موضوع «الطب النبوي»، حيث يجمع فيه المصنف ما ورد عن النبي عليه السلام مما له علاقة بالطب، ويتضمن وصفات داوى بها النبي بعض أصحابه ممن سأله الشفاء أو أنه دعا إلى التداوي بها، إضافة إلى النصوص التي تتعلق بصحة الإنسان في أحوال حياته من مأكل ومشرب ومسكن ومنكح، أو تتعلق بأمور التداوي وأدب الطب. وصلت إلينا مؤلفات بهذا الاسم، كالطب النبوي لابن حبيب الأندلسي، ومثله عند أبي بكر الدينوري، وصنف أيضاً في الطب النبوي الحافظ الأصبهاني، وعبداللطيف البغدادي، وغيرهم. لكن أشهر هذه المصنفات هو كتاب «الطب النبوي» لابن القيم الجوزية، وهو في أصله جزء من كتابه «زاد المعاد»، لكنه صدر في كتاب مستقل، بنسخ وتحقيقات متعددة، وفيه يتناول المؤلف بعض الأمراض والأسقام، ويذكر ما ورد فيها من هدي النبي في علاجها، (مثل: هديه في علاج الحمى، الصداع، لدغة العقرب والحية، علاج الأخلاط، علاج مرض ذات الجنب... إلخ).
واليوم في ظل انتشار الأمراض والأوبئة، يتجدد النقاش حول هذا الباب، ويطفو على السطح خلاف بين فئتين ترى بأن النصوص النبوية الواردة في الطب والتداوي هي تشريع على المسلم الالتزام به ويؤجر عليه، وأن في بعض الأعشاب والأغذية منفعة صحية مباشرة نظراً لما دلت عليها النصوص النبوية كالعسل، والحبة السوداء، وتمر العجوة، وغيرها. وبين من يرفض هذا المبدأ، لأن أحاديث الطب النبوي هي إرشادات دنيوية من قبيل العادات والتجارب الشخصية في ذلك الزمان، وقد تصيب وتخطئ، والطبيب هو المخول بصرف الدواء وفقاً لما توصل إليه العلم الحديث من تجارب ونتائج، لأن الاعتماد على اختيار الدواء بناء على النصوص الدينية قد يسبب مضاعفات للمريض كما يحدث ذلك مثلاً مع مرضى السكري، حين يتوقفون عن تناول دوائهم واختيار التشافي بالعسل بديلاً! أو المبالغة في استخدام «الحبة السوداء» لعلاج الآلام والأوجاع مما قد يفاقم حالة المريض، ويتسبب له بمضاعفات حادة.
الخلاف حول هذه المسألة ليس وليد اليوم، أو منحصرا بين الفقهاء والأطباء، بل هو خلاف قديم بين الفقهاء أنفسهم، ومحل الخلاف: هل الأحاديث الواردة في الأمور الدنيوية عموماً، وفي الطب والتداوي (إن صحت) هي حجة، وتُعتبر وحياً وتشريعاً؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: إن النبي عليه السلام معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا، بل كل ما يعتقده في ذلك مطابق للواقع، وكذلك ما يقوله ويخبر به. وابن القيم في كتابه (الطب النبوي) يذهب إلى حجية أقواله وأفعاله عليه السلام في الطب. يقول: «طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل»، وعلى ذلك بنى ابن القيم كتابه، وفي ذلك يحاجج ضد من يرى بأن رسالة النبي لم تأت من أجل مسائل الطب والأدوية، حيث يقول: «بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم». ويبدو أن هذا رأي أغلب المحدثين.
القول الثاني: إن الأحاديث الواردة في الطب والتداوي هي ليست من التشريع، بل هي مما جرت عليه العادة، وتجارب العرب وخبرتهم، ويدخل في هذا الباب عموم الأحاديث المتعلقة بالأمور الدنيوية، من زراعة، وتجارة، وصناعة ونحوه، فهي تصدر عن النبي عليه السلام من تجربته ورأيه الشخصي، وليس من مقام الوحي والتشريع، وأشهر دليل على ذلك حديث تأبير النخل، حين قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وقوله: «إنما أنا بشر فإن أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإن أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر».
وهذا الأمر تنبه له بوضوح الصحابي الحباب بن المنذر في غزوة بدر، حين «سأل رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي».
واختار هذا القول القاضي عياض، والقاضي عبدالجبار، وابن خلدون، ومن المتأخرين محمد أبو زهرة، وانتصر له من السلفيين المعاصرين عمر بن سليمان الأشقر الذي كتب بحثاً بعنوان «مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية»، حيث يقول في خلاصته: «أرى أن تخضع هذه الأحاديث للتحليل وللتجارب الطبية على الأسس المتعارفة عند أهل الاختصاص. فإن وجدت صالحة أدخلت حيز العمل، ويكون التحليل والتجريب هو الحجة في صلاحيتها، دون كونها مما ورد عن النبي خاصة وأن الكثير منها لا يثبت بطريق القطع أو شبهه»، ويقول أيضاً: «لا ينبغي أن تؤخذ هذه الأحاديث حجة في الطب والعلاج، مثل حديث غمس الذبابة في الشراب، ودواء الحمى بالماء ونحوه، بل المرجع في ذلك إلى أهل الطب فهم أهل الاختصاص، وقد يتبين في شيء من هذه الأحاديث الخطأ من الناحية الطبية الصرفة، وكما قال القاضي عياض: ليست في ذلك محطة ولا منقصة، لأنها أمور اعتيادية يعرفها من جربها».
وقد اتخذ ابن خلدون موقفاً صريحاً من أحاديث الطب النبوي، ورفض اعتبارها وحياً أو شرعاً، حيث يقول في مقدمته: «وللباديةِ من أهل العمران طبٌ يبنونه في غالب الأمر على تجربةٍ قاصرةٍ على بعض الأشخاص، ويتداولونه مُتوارثاً عن مشايخ الحَي وعجائزه، وربما يَصح منهُ البعض، إلا أنهُ ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج... والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عادياً للعرب ووقع في ذكر أحوال النبي من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه عليه السلام إنما بُعث ليعرفنا الشرائع ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم؛ فلا ينبغي أن يُحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يَدل عليه؛ اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصِدق العَقْد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع، وليس ذلك في الطب المزاجي، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما وقع في مُداواة المبطون بالعسل».
نقلا عن عكاظ

arrow up