رئيس التحرير : مشعل العريفي
 أ.د.صالح بن سبعان
أ.د.صالح بن سبعان

الملحقيات الثقافية والخصوصية الثقافية.. فى حروب العولمة !

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

قبل عقدين قادتنى ظروف عمل خاص إلى جمهورية الصين الشعبية ، وكانت سانحة ترافقت مع إنعقاد مؤتمر علمى وجدتنى أشارك فيه . وخلال تلك الزيارة سعدت بزيارة سـفارتنا ، حيث قضيت وقتاً ممتعاً مع صديقنا الدكتور / محمد البشر سفيرنا بالصين ، تخلله نقاشات مثمرة ومفيدة عن الصين والتحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التى تشهدها .
ضرورة إسـتراتيجية : لا أدرى لماذا خطر بذهنى السؤال عن من يشغل منصب الملحق الثقافي بسفارتنا ؟ . إلا أن إجابة سعادة السفير بأنه لايوجد من يشغل هذا المنصب ، لأنه لايوجد بسـفارتنا ملحقية ثقافية ، أثارت عجبى . وزادت دهشتى عندما سألته عن السبب ، فأجاب بأننا لا نملك طلبة من دولتنا بالجامعات الصينية ! . تعجبت لأن الملحقيات الثقافية لا يقتصر دورها على الإشراف والإهتمام بشؤون الطبة الذين تبتعثهم الدولة ، أو يبتعثهم ذووهم للدراسة في تلك الدولة ، بقدر ما يشكل هذا واحداً من وظائفها . بل يكاد ـ في حال وجود عدد كبير من رعايا الدولة كدارسين ـ أن لايكون من ضمن عمل الملحقية الثقافية رعاية شؤونهم ، إذ ستخصص وزارة الخارجية في هذه الحالة ، إدارة خاصة منفصلة لذلك تحت مسمى " الملحقية التعليمية " أو " البعثة التعليمية " ، حسب مستوى ونوع وكم هذا التعاون التعليمى . أما وظيفة ودور الملحقية الثقافية ، فأمر مختلف تماماً . ونستطيع أن نجد أمثلة على هذا كثيرة .. ترى كم هو عدد الطلبة الأمريكان أو الإنجليز أو الفرنسيين أو الصينيين الذين يدرسون بجامعاتنا ؟ .. ورغم هذا فإن لسفارات هذه الدول ملحقيات ثقافية .
فما هو دورها ؟ .. بما أننا لاندعى الإطلاع على " النوايا " الخفية لهذه الدول في تخصيص ملحقيات ثقافية في سفاراتها بالمملكة ، أو في أي دولة أخرى ـ خارج المنظومة الثقافية والسياسية للغرب ـ فإننا سنكتفى بما يعلنونه هم من دوافع وأهداف ، وما تشهده أعيننا حين ترصد ـ ولو على السطح ـ حركة أفراد هذه الملحقيات . إذ تراهم يقيمون العلاقات بالجامعات ومؤسسات ومراكز الأبحاث ذات الصبغة العلمية والأكاديمية والثقافية ، ويسجلون زيارات لدور الصحف ، ويحاولون أن يفتحوا قنوات التواصل وإقامة العلاقات مع العاملين بهذه المؤسسات ، ويشاركون فى الندوات واللقاءات التفاكرية وغيرها من هذه النشاطات . والهدف في كل ذلك هو الترويج لصورة معينة لبلدانهم من خلال وسائط ثقافية ، وإعلامية ، وبالإتصال المباشر أيضاً ، وذلك لترسيخ صورة معينة عن بلدانهم وشعوبها وثقافتها ، تجعل من تفهم وجهة نظرهم من كافة الأحداث أمراً ممكناً ، إن لم يكن لصانعى القرار هنا ، فعلى الأقل للصفوة ، التي بدورها تؤثر في الرأي العام . ومن يقرأ كتاب " الحرب الباردة الثقافية " الذي أحدث ضجة مؤخراً ليس في عالمنا العربي وحده ، بل وفى العالم كله ، يدرك مدى خطورة وفاعلية الدور الذي يمكن أن تلعبه المراكز التعليمة التي يتم ربطها بطريقة لامباشرة بسياسات الدول ، التي تستخدم هذه المراكز الثقافية كأسلحة متقدمة في حربها الأيدلوجية وكسب الجولات الفكرية . والحال أننا في المملكة كنموذج للدول الإسلامية والعربية ـ لانطمح ، ولا نرغب ، في توظيف ملحقاتنا الثقافية هذا التوظيف الإمبريالي ، ولا نريد أن نغزو أحداً ما غزواً فكرياً ، ولا نفكر في السيطرة الفكرية على الآخرين . بل على العكس ، نحن المستهدفون بالغزو والمهددون بالسيطرة . ونسعى جاهدين كي ندرأ عن مجتمعاتنا هذا الخطر . وأعتقد أن واحدة من أهم الوسائل في ذلك هي هذه الملحقيات .
المفـردات الثـلاث : فنحن نعيش في عالم يتجه للعولمة الشاملة ، بل هو يسبح في محيط من العولمة التي أصبحت واقعاً الآن . وفى ظل هذه العولمة ، فإن المستهدف الأول هو الخصوصية الثقافية للدول والشعوب والمجتمعات . بمعنى أن التنميط الإقتصادى والصناعي والتجاري والإستهلاكى في العالم الجديد لن ينجح إلا إذا تم إلغاء هذه الخصوصية . فالعواصم فى العالم المعاصر أصبحت متشابهة ، بل ومتماثلة ، سواءً من حيث تخطيطها ، أو شكل بناياتها وطابعها المعماري ، وفى المحلات ، الشركات متعددة الجنسيات التي تملأ شوارعها ، وتقدم أطعمة ومشروبات متماثلة ، وفى تصميم ولغة إعلاناتها المضيئة . وفى خضم هذه العولمة التي تجرى على قدم وساق ، ما الذي يعرفه الغرب الأوروأمريكى عنا ؟ ما الصورة السعودية في مخيلة الإنسان الغربي ؟؟ . لقد تم إختزالنا في ثلاث مفردات تشكل ، من ناحية ، صورتنا ، ومن ناحية أخرى هي العناوين التي تدل علينا وهى : الأماكن المقدسة ، والنفط ، والإنسـان . وإذا ما أخذنا كل مفـردة من هذه المفـردات ، وحللنا ظلها على صورتنا في مخـيلة ووجدان الآخر/الغربي الذي تربطنا به علاقات متشابكة : سياسياً وإقتصادياً وثقافياً وإجتماعياً ، ولكنها علاقة متوترة ، غير مستقرة . حينها سنعرف ما الذي يعنيه وجود ملحقيات ثقافية للمملكة في بلدان العالم المختلفة .
ولنأخذ الحرمين الشريفين كعنوانين على المسلمين كافة ، وعلى السعودية كبلد بشكل أخص . فهما بالنسبة للمسلم في أي مكان من العالم يلقيان بظلال إيجابية فى نظرته للإنسان السعودي ، كمواطن فى بلد أختصه الله دون الأرض جميعاً ببيته الحرام ، وبقبر أكرم خلقه . إلا أن الغرب ـ الأوروأمريكى ـ وقد إستطاع أن يسحب معه العديد من دول العالم الثالث والعاشر أيضاً ـ أخد يتعامل مع الإسلام والمسلمين ـ بالتالي ـ كأعداء ، ليس له وحده ، بل وللحضارة ، والعالم كله ، من خلال تهمة الإرهاب .. هذا المصطلح الهلامي دلالاتاً ومفاهيماً ، والمفصل جيداً على مقاس الإسلام والمسلمين .. وعلى كلٍ فإن من شأن الغرب ، أن يخلق العدو إن لم يجده . وحسب هذا الطرح الإيديولوجى الجديد كان ولابد أن تحتل المملكة موقع الصدارة في لائحة الأعداء ، باعتبارها حاضنة هذه الهبة الإلهية أو المحظية بهذا الكرم الإلهي كقبلة تهفو لها قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، لوجود المقدسات الإسلامية على أرضها .. ومن هنا فإن النيل " سياسياً " من المملكة إنما هو في جوهره استهداف لقيمها " الرمزية " كقبلة للمسلمين .. وقد إقترح أحدهم بالأمس القريب أن تضرب مكة المكرمة بقنبلة نووية .. ولذا توصف المملكة ـ ككيان سياسي ـ بالممول للإرهاب والراعية الأولى له من خلال مؤسساتها الخيرية ... الخ من هذا الهراء ، خاصةً حين يخلط هذا بمواقف المملكة المبدئية الداعمة للحق العربي في فلسطين وقيادتها لهذا العمل عربياً .
مابين الشهواني والتطهرى : ********************* أما المفردة الثانية ـ ولعلها الأولى من منظور آخر ـ فى العنوان السعودي غربياً فهي النفط . هذا النفط الذي ، ومنذ كشـر عن أنيابه إبان حرب 1973 كسلاح إقتصادى سياسي إستراتيجى ، أصبح هو بؤرة التخطيط السياسي الإستراتيجي في الغرب ، وفى الولايات المتحدة تحديداً والتي كانت تقود الغرب في حربها المقدسة آنذاك ضد المعسكر الشيوعي . وقد أكرم الله ـ ثانياً ـ هذا البلد بأن جعله الأمين على المخزون الإحتياطى النفطي الأكبر في العالم ، وإن كانت المنطقة كلها بهذا القدر أو ذاك من هذا المخزون . ويجرى فى أمريكا الترويج من قبل مراكز القوى والضغط ـ وهى صهيونية في الأصل ـ لفكرة أن أرواح الناس في أمريكا ، إنما هي في قبضة صاحب القرار السعودي ، وبالتالي فإن المحافظة على بقائهم أحياء ، يتمتعون بالرفاهية تستلزم السيطرة على منابع النفط . وحين تبدى المملكة ـ مثلاً ـ احتجاجها على الإنحياز الأمريكي المفضوح لإسرائيل التي تقوم بعملية إبادة منظمة وممنهجة للشعب الفلسطيني ، وتحاول بشتى الطرق السياسية والدبلوماسية ، لعب دورها الطبيعي كدولة ذات ثقل إسلامي نوعى وموضوعي في العالم . تهب القوى الصهيونية في أمريكا نابحة لتنشر الرعب في قلوب المواطنين الأمريكان ، وهم أساساً يجهلون ما يدور خارج أسوار بيتهم الأمريكي ، وتتعالى الأصوات : النفط .. النفط !! ونأتي إلى المفردة الثالثة وهى : الإنسان الخليجي ، والسعودي تحديداً . نحن نعرف كلنا ماهي الصورة النمطية للإنسان الخليجي عامة والتي تم تكريسها في الإعلام الغربى وفى وسائط الثقافة الجماهيرية . حيث تم تكريس صورة : الثرى المبذر الجشع الشهواني . وقد تم الإلحاح على هذه الصورة في الأفلام والمسلسلات والروايات والمذكرات المزورة بشكل متواتر ، حتى تم ترسيخها تماماً . وللأسف فقد أستغلت أخطاء البعض ممن لاتخلو منهم أمة أو مجتمع مهما بلغ طهـره الأخلاقي ، لتأكيد هذه الصورة وترسيخها . وبعد أحداث سبتمبر أضيفت لها صورة نقيض ، يجرى تسويقها والترويج لها عبر أجهزة الإعلام ، وهى صورة أسامة بن لادن ومن هم معه ممن كانت تدعمهم أمريكا إبان حربها ضد السوفيت في أفغانستان . وتختلط الصورتان في الذهن الأمريكي ، أو ذهن المواطن الأمريكي ويظل مشدوداً ما بين الثرى الشهواني ، والثرى الأصولي المتطرف . ما بين الذي يبدد الأموال بسخاء أخـرق .. وذلك الإسـتشـهادى المتطهر الذي يزرع الرعب والموت !! . هذه هي المفردات التي تشكل الصورة العامة ، أو التي أراد لها الإعلام الصهيوني ، أن تشكل صورة السعودي في مخيلة المواطن الأمريكي ، إن لم نقل الغربي ، فثمة أسباب موضوعية تجعل أوروبا أكثر تفهماً ، ونظرتها أكثر واقعية من هذا الهـراء الذى يجرى ترسيخه في أمريكا . مسـؤولية تاريخيـة *************** مثل هذه المعطيات تحتاج إلى عمل سياسي ضخم ، لايركز على مخاطبة الساسة في العواصم الغربية والآسيوية والأفريقية ، ولكن عمل يتم عبر مؤسسات المجتمع المدني ، ويعمل بالتنسيق أيضاً مع المؤسسات الحكومية ، وفى الجامعات ، ومراكز الأبحاث العلمية ، ليعكس الوجه الآخر أو الوجه الواقعي الحقيقي للمملكة كدولة .. والإنسان السعودي كإنسان . وهنا تستطيع أن تلعب الملحقيات الثقافية دوراً متعاظماً . ففي دولة كصين مثلاً ـ وهى مناسـبة هذا الحديث ـ حيث تربطنا بها علاقات تمتد على آلاف السنين ، ويربطنا بها إرث حضاري مشرقى مشترك .. مثلاً نحن نعرف أن الصين تتقدم في صناعة التكنولوجيا بخطوات واسعة ، ويتوقع الصينيون بعد عقدين أن يكونوا من الأرقام المتقدمة في صناعة وتجارة تقنية الاتصالات .. وأن الصين أصبحت مفتوحة سياسياً وإقتصادياً على العالم ، وأنها تقيم علاقات تبادل في مجال تصنيع التكنولوجيا حتى مع إسرائيل ، فلماذا لا نفتح أبواب التعاون والتبادل العلمي والثقافي معها في مجالات التدريب ، والتعليم التقني والفني ، وإقامة المراكز الثقافية بين البلدين ؟ . فإذا وضعنا في الاعتبار أننا مسئولون عن نشر الإسلام والثقافة العربية والإسلامية ، وأن في الصين ملايين المسلمين ، فلم لانكثف النشاط بينهم عن طريق المراكز الإسلامية لوصل حبال الأخوة بينهم وبين أخوانهم المسلمين هنا ، وفى العالم ؟ . أوليس هذا واجباً دينياً لايسقط ؟ . وما يُقال عن الصين ينطبق على أي بلد آخر في العالم تدعونا ظروفاً معينة على تخصيص ملحقيه ثقافية في سفارتنا به ، في أي قارة من قارات الدنيا . ليس درء الشبهات ، وتفنيد الأكاذيب وحدهما ما يجب أن تقوم به ملحقيتنا الثقافية .. ولكن أيضاً التعريف بنا للعالم ، وإقامة جسور التواصل والتعاون الثقافي بيننا وبين الشعوب والحكومات ، ما يمكن أن تقوم به هذه الملحقيات .. وقبل هذا وذاك نشر ثقافتنا .. ثقافة السـلام . خلاصة القول : ************ أننا بلد بقدر ما أكرمه الله بمقدساته وبخيراته الطبيعية ، بقدر ما وضع على عاتقه مسؤوليات جسام ، لحماية الإسلام من كيد من يكيدون له وللمسلمين . وأننا يجب أن ننهض بهذه المسؤولية مهما بدت كبيرة ، وثقيلة وشاقة ، فبعون الله نحن أهلاً لها .. وأن الحرب اليوم ـ في ظل العولمة ـ أصبحت حرباً ثقافية في المقام الأول ، وأن واحدة من الوسائل التي يجب توظيفها في هذه المرحلة هي الملحقيات الثقافية التي ستقوم بعملية الإستكشاف من خلال إتصالها الثقافي بالمراكز الثقافية الأهلية والحكومية ، والمراكز العلمية والأكاديمية .. فهلا أعطيناها بعض حقها لنقوم بدورها ؟ .

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up