رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. حسناء القنيعير
د. حسناء القنيعير

الهيئة والاحتساب على المرأة

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

لا عجب أن تحتل المرأة بؤرة الرؤى المتزمتة؛ فهي مادتها وموضوعها، وهي التي تمثل مركز الثقل في فكر التشدد! فعندما تهمش المرأة، ويحال بينها وممارسة دورها في الحياة العامة والطبيعية، ويُراد لها أن تكون بعيدة عن صخب قضايا تمس وجودها، كل هذا يجعلها بعيدة عن الوعي بدورها وبأهمية الحراك النسائي في مجتمعها، أي تصبح معزولة عقلاً بعد أن عزلت جسداً؛ ذلك أن حركة الجسد النسائي بما هي نظام من العلامات الدالة المنتجة للمعاني، فإنها تجعل الجسد الأنثوي خاضعاً لطبيعة الثقافة التي يوجد فيها، إذ يحجب بعيداً عن أنظار الرجال بإقصائه عن الفضاء العام؛ لأنه مصدر الفتنة وكل ما تقود إليه من آثام، فيجب حجبه حتى لو أفضى ذلك إلى نتائج تضر المرأة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً.
وقد نجح أصحاب تلك النظرة، في تغييبها عن البعد الاجتماعي.
يدخل في هذا السياق ما أعلنته هيئة الأمر بالمعروف منذ أيام من أنها "أنهت برنامج (مهارات التعامل مع المرأة في الميدان) واستفاد منه أكثر من 100 عضو، لإكساب العاملين في الميدان المهارات اللازمة للتعامل مع المرأة عند الاحتساب عليها.. وفق طبيعتها ومراعاة تطبيق الأحكام الشرعية عند الاحتساب عليها"! وكانت جامعة حائل أقامت دورة مماثلة في جمادى الآخرة 1434ه.
وحسب إحدى الصحف فقد أثار هذا الخبر انتقادات حادة من ناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي ضد فرع الهيئة في الرياض، متسائلين عن أسباب عقد هذه الدورة التي تثير الغرابة بقصرها على المرأة، وكأن المنكرات لا تصدر إلا منها، لكن ما أثار إعجاب بعضهم هو ما قاله أحد المشايخ -حسب جريدة عكاظ- في حسابه بتويتر: "كأن هذه المرأة كائن غريب هبط من كواكب بعيدة، لا نعرف كيف نتعامل معه! "، وأضاف: "دعيت مرة للمشاركة في ورشة عمل عن الحسبة والمرأة، فقلت للمجتمعين أنتم تناقشون قضايا الاحتساب عليها، ونريد مناقشة الاحتساب لها: تحتسبون على منكرات تصدر من بعضهن، فاحتسبوا رحمكم الله في قضايا حاجات المرأة المتنوعة، فكثير من حاجاتهن وضروراتهن معطلة"! وهذا يؤكد انشغال رجال الهيئة والمحتسبين بقضايا تتعلق بوجود المرأة في الأسواق والأماكن العامة، الأمر الذي يعدون له كل ما استطاعوا من قوة، لإبعادها إن لم تبدُ عليها سيماء التشدد في المظهر، مما يعدونه منكراً. لكن يجدر بنا أن نتساءل: ما المنكر الذي يحتسبون عليه؟ وما حدوده وفيمَ يكون؟ وهل هو ذلك الذي حدده الشرع وبيّنه؟ أم هو ذلك الذي يجري التزيد فيه ويحدده رجل الهيئة ويعالجه كيفما أراد؟
كلنا يعلم أن المنكر الذي لم يحدده الشرع يختلف موقف الناس منه، فما يراه بعضهم منكراً قد لا يراه بعضهم الآخر كذلك. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن معظم ما ينكره رجل الهيئة على النساء في الأسواق هو شكل العباءة، فهل جاء في الشرع ما يحدد ماهيتها: ممّ تصنع، وما لونها، وكيف تُلبس؟ كما أن بعضهم يجتهد فيجعل بعض الأمور من المنكر اعتماداً على العُرف كمسألة كشف المرأة عن وجهها، فمع أنها مسألة خلافية إلا أنهم يجعلونها منكراً، لأن غطاء الوجه من القضايا التي أقرها العُرف لا الشرع. وقيسوا على ذلك أموراً كثيرة ربما يأتي على رأسها جلوس امرأة مع رجل في مكان عام، فإن هذا مدعاة للشك حتى لو كانت أخته أو أمه أو جدته، أو ركوبها مع رجل في سيارة، مما يثير ريبة بعض رجال الهيئة فيهما وتجري مساءلتهما، فأيّما امرأة ركبت مع رجل في سيارة (عدا السائقين) فإنهما عرضة للمساءلة التي أدت في حالات كثيرة عند امتناع الرجل عن الوقوف، إلى مطاردة السيارة ووقوع ضحايا، كما ورد في عدد من الصحف منذ أمد، لا فرق في ذلك بين مطاردة رجال الهيئة لهم أو فرارهم من تلقاء أنفسهم، نتيجة للرعب الذي ينتابهم أياً كانت العلاقة التي تربطهم بمن معهم.
ولهذا نقول: أين هؤلاء من المخدرات التي تفتك بمتعاطيها من الشباب؟ أين هؤلاء من جرائم العمالة والسائقين في كثير من المنازل؟ بل أين هؤلاء من جرائم العمالة الوافدة التي تتعلق ببيع لحوم ومعلبات فاسدة، وتصنيع أطعمة وعصائر من مواد منتهية الصلاحية في أماكن شديدة القذارة، وبأدوات لا تقل قذارة عن أماكن تصنيعها، ناهيكم عن عدم لياقة تلك العمالة صحياً؟ أليست متابعة تلك الأوكار جزءاً أصيلاً في مفهوم الاحتساب؟ أولم يكن الاحتساب في عهد عمر بن الخطاب يركز على الأسواق وما يُباع فيها؟ وأين هؤلاء من قضايا التستر التي يمارسها ضعاف النفوس وفاقدو الشعور بالانتماء إلى الوطن؟ بل أين أولئك من جشع التجار واستغلال المواطنين؟ إن ما يمارسه هؤلاء بدعوى الاحتساب على المرأة ليس إلا ترفاً وتسلطاً، فلم يأمر الله بالتضييق على المرأة على هذا النحو، في الوقت الذي راعت فيه الدولة الضوابط الشرعية في كل ما يتعلق بها ويمس أمور حياتها، وما دامت الدولة تحتكم في كل ما تفعله للدين الحنيف، فليس أولئك بأحرص منها على تطبيق شرع الله.
إنه يشترط للقيام بالأمر بالمعروف أن يكون القول أو الفعل مجمعاً على كونه منكراً، وهذا الاتفاق يخرج ما اُختلف فيه من أمر الاحتساب؛ إذ لا إنكار فيما وقع فيه خلاف معتبر، بل لا بدّ أن يكون منكراً بميزان الشرع حتى لا يكون ذلك مدعاة لتجاوز ما جعله الشارع حرماتٍ لا ينبغي انتهاكها أبداً، كحرمات النفس والأموال والأعراض والدماء، والوقائع تشير إلى حدوث كثير من التجاوزات.
كثر الحديث منذ سنوات عن أهمية إيجاد آليات لضبط عمل رجال الهيئة، وأصبح ذلك مطلباً ملحاً لدى الكثيرين، آليات لا تهدف إلى العقوبات والزجر والتنقيب في ضمائر الناس، وإهدار حقوقهم، بقدر ما تسعى إلى ضبط سلوك المخالف بالحسنى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية مجتمعية، قبل أن يكون وظيفة إدارية لأفراد يتقاضون مرتبات مقابل ما يقومون به، وهذه الوظيفة تخرج الأمر بالمعروف من حيز المسؤولية الإدارية إلى المسؤولية المجتمعية، ومن هنا جاءت مطالبة عضو مجلس الشورى عبدالله السعدون هيئة الأمر بالمعروف تحديد المنكرات، بمشروع قرار "حاز على تصويت الأغلبية، وذلك للقضاء على الاجتهادات التي قد تنشأ عنها بعض السلبيات في عمل الهيئة، بوضع منهج عمل ضمن دليل إرشادي للعاملين في الميدان، يحدد المنكرات التي تتطلب التدخل من أعضائها".
وهناك من يرفض بشدة تقنين عمل الهيئة بتحديد المنكرات التي يتم القبض بموجبها، متجاهلين أن "تقارير الهيئة أشارت إلى ثلاثين ألف واقعة حدثت خلال السنوات الماضية بسبب رفع صوت الموسيقى في السيارة" فقط!
أما عمل المرأة في الهيئة الذي نادى وينادي به بعضهم، منهم عضوتان في مجلس الشورى وغيرهما، فيأتي بمبررات على رأسها كما كتب أحدهم أن المرأة: "أقدر على أن توجّه النصح والتوجيه لغيرها من النساء بأسلوب لطيف وصوت خفيض"!
وكانت الصحف قد نشرت أن الرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "تدرس إنشاء وحدة خاصة بعضوات للهيئة، فيما يتعلق بالجانب النسائي على وجه الخصوص.. كالمساهمة في القبض والمناصحة للنساء المخالفات اللاتي تقوم الهيئة بإيقافهن.. وستساهم العضوات في نشر مبادئ الأمر بالمعروف وفق الأحكام والضوابط الشرعية المحددة لهن.. في الأماكن التي من الأجدر دخول المرأة إليها لممارسة الكشف والمتابعة كما في بعض محال المشاغل النسائية والأسواق النسائية أو مدن الألعاب النسائية وصالات قصور الأفراح النسائية"!
ولكم أن تتخيلوا حجم الإشكالات التي ستقع في الأماكن المشار إليها فيما لو عملت المرأة في هذا القطاع، فمن طبيعة بعض النسوة حبهن للسلطة، وممارستها في غاية القوة والتشدد على من يقعن تحت سلطاتهن، فما بالكم وهن يستمددن السلطة من وظيفة باسم الدين، ناهيكم عن عنف خطاب المرأة المتشددة دينياً الموجّه لمن تعتقد انحرافها عمّا تعتقده الصواب.. ولمعرفة ذلك يجدر الاطلاع على تحقيق هتاف المحيميد في هذه الصحيقة: استفزاز «المرأة المتشددة»..! نقلا عن الرياض

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up