رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. إبراهيم المطرودي
د. إبراهيم المطرودي

النهضة وتدهور الزمان

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

التقليد وتقديس الآباء مشترك إنساني، مرّت الأمم كلها في سبيل التحرر منه، والتخفف من أعبائه، وما زال المسلمون يُعانون منه أكثر من غيرهم، وتحكمهم منظومته أعظم مما عند مجاوريهم، وإليه تعود مجمل مشكلاتهم؛ لأن التقليد يعوق العقل، ويعرقله، ويضع السدود الكثيرة دونه. والإنسان، كما هو شهير ومتداول، لا يخرج من حالين؛ الأولى أن يضع خطة لنفسه، ويتدبّر أمر حياته، والثانية أن يكون ضمن خطة غيره، والمقلد من الصنف الثاني، وإذاكنّا نلوم المرء، أن يكون ضمن خطة غيره، ونجهد في نصحه، أن يكون تبعا لخطط الآخرين من قبله؛ فما نحن صانعون لأمة ارتضت أن تنقاد لخطط من تقدّمها بقرون، وتعتدّ به في كل شأن حتى أضحى مَنْ يخرج عن الموروث مطالباً بحجة لهذا الخروج، ومُلزما أن يُسوّغ فَعْلته التي فعلها ولم يكن له فيها سلف، ولا تقدّمه إلى القول بها أحد.
التقليد يقود أصحابه إلى تطهير الماضي من كل خطل، وتنزيهه عن كل خلل، ويضطرهم إلى جعل الماضي نموذجا أعلى للكمال، وصورة عليا للعقل، ومن لوازم هذه الصورة الذهنية أن الزمن يفسد ببُعْده عن ذلكم العصر، ويتدهور بتراخيه عنه؛ فبهذا المنطق وحده يُحافظ على بقاء التقليد، ورواج ثقافته ومنطقه، وبالتقليد نفسه، وذيوع منطقه؛ يفسد الزمن حقا، وتستشري الشكوى منه؛ لأن التقليد يفصل الإنسان عن عصره، ويُبعده عنه؛ فيرى هؤلاء المقلدون أنّ فساد الزمن حقيقة لا شك فيها، وقضية لا جدل حولها، وهم لو تأملوا التقليد وثقافته؛ لوجدوهما العلة في فساد زمنهم، والسبب في انحداره؛ فالمقلدون يعيشون لغير أزمانهم، ويبذلون لغيرها، فكيف يستطيعون إصلاحها وتحسينها؟ إن المقلد قد عزل نفسه عن عصره، ومشى على خطى مَنْ تقدّمه، فكيف ينتظر للزمن صلاحا وقد تركه، ويترقّب منه خيرا وقد أهمله؟
عالم الأشخاص حاكم في ثقافتنا، وله نفوذ كبير فيها، ولعل من أجلى هذه المظاهر أننا ما زلنا نُعرّف أنفسنا مذهبيا من خلال رجال عاشوا قبل مئة سنة وألف، وما فتئنا نرى أنّ خير طرائق التفكير والنظر هي تلك التي تركوها لنا، وأورثوها لأجيالنا. ليست المعادلة في عالم الأشخاص قائمة على خيارين فحسب؛ أن نكون معهم، ونُدافع عنهم، أو نكون ضدهم، ونأنف من تأريخهم، ونُكثر من نقدهم؛ فثمّ طريق ثالث هو إجلال المتقدم، وتوقيره، والثناء عليه، والإضافة إلى ما تركه وأبقاه، وتلافي نقصه؛ سواء كان هذا النقص راجعا إليه، أوعائدا إلى ظروف الزمان التي لم تُتِح له أن يفطن إلى أمور بدت لنا ضرورة أو ملحة.
ليس التحدي الذي نعيشه اليوم، أو يعيشه كثير منا، في العلاقة المتوعكة مع الماضي وأهله، شيئاً خاصاً بنا وبثقافتنا؛ فالأمم من حولنا كانت كذلك، واشتكى بعض رجالها من تلك الحال، وأسدوا إلى أممهم من الحكمة ما أظننا بحاجته اليوم. ومن الناطقين بهذه الحكمة كارل بوبر في مقدمة كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" حين قال:" إذا كان قد ورد في هذا الكتاب بعض الكلمات القاسية التي تعرّضتُ بها لكبار قادة الفكر الإنساني، فإنني أرجو ألّا يُعتقد أن دافعي إلى ذلك هو التقليل من شأنهم، وإذ إن دافعي إلى ذلك هو يقيني بأن حضارتنا إذا ما أُريد لها أن تبقى وتستمر، فينبغي أن تقلع عن عادة الدفاع الأعمى عن أولئك المفكرين العظماء".
الفرق كبير بيننا وبين الأستاذ بوبر؛ فهو يقول هذا الكلام في سياق حضارة نشط، يخاف عليه أن يتوقف، أو يُصيبه الذبول، ونحن نُعيد حكمته هذه، وهي حكمة قالها قبله الكثير، في سياق الحديث عن إنشاء الحضارة، وتحصيل أسبابها من جديد، وإذا كان من يعيش الحضارة، ويتفيأ ظلالها؛ يخاف عادة الدفاع الأعمى عن العظماء الأولين هذا الخوف، ويربط بينها وبين توقف حضارته وتحشّب هياكلها، فماذا سيكون خوف أمثالنا من هذه العادة، ونحن ما زلنا نخطو خطواتنا الأولى إليها، حين بدأ رعيلنا الأول بطرح سؤالها، وأثار بيننا قضيتها؟
عادة الدفاع الأعمى عن عظماء الماضي قضية حرية أن نضعها بين أيدينا حين نتحدث عن النهضة، وتطوف أذهاننا خلف أسباب غيابها، وعلل تواريها؛ فهذا الدفاع عن عالم الأشخاص يقود غيرنا إلى هذا المستنقع، ويجعل همنا وهم غيرنا في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وأي خطاب يلد خطابا مضادا له؛ فالثقافة في كل زمن تقريبا هي ثمرة الصراع بين الخطابات القارّة، وما لم نصغ خطابا مختلفا، فلا سبيل لنا إلا الاندماج مع تلك الخطابات التي تستهلك جهودنا، وتمتصّ طاقاتنا، فأحسن خياراتنا هذه الأيام هو الخطاب الذي يسعى جاهدا أن يخرج من خنادق الماضي، مدحا وذما، ويتجه بقوة، وهو بإذن الله القوي الأمين، إلى تأسيس معرفة علمية، هدفها المشاركة في تراكم المعرفة وتكوينها، وليس في الدفاع عنها وعن أصحابها، هدفها أن يستقل المتأخر معرفيا وثقافيا، فيستشعر من نفسه القوة حين يُقارنها بأسلافه الأولين، فبهذا وحده نفارق دور الحارس الذي قضينا فيه كثيرا من أزماننا وجهودنا، وبه وحده نعود للحضارة من جديد؛ فالحضارة من شرورطها المعاصرة، ولن يفي بالمعاصرة سوانا، ولن يقوم بها غيرنا.
يؤمن جمع غفير من المسلمين بتدهور الزمان وانحلاله، ويُردّدونه في مجالسهم، ويُشيعونه في منتدياتهم، غير أنهم دائمو الشكوى من الحال، كثيرو التحسر على المآل، يبحثون عن النهضة، ويقرؤون فيها، ويسألون عنها الغادي والرائح، ولعلهم قد غفلوا عن أنّ ما يريدونه، ويبحثون عنه، قد حِيل بينهم وبينه بمثل هذه الأفكار التي جعلت ثقافتهم، وأطرهم الفكرية، مصبوغة بصباغ الحراسة، ومبنية على أهدافها، وتلك نهاية، لا محيد عنها، لمن رأى الزمان وأهله في تسفّل وانحدار، وجعل تلك الرؤية، ومنطقها الحزين، جزءا أصيلا من دينه، وثابتا من ثوابته.
في خطابنا الإسلامي ربط وثيق بين عودتنا إلى ديننا وعودة الحضارة إلينا، والسؤال الذي يُطرح حينها: كيف نعود إلى ديننا، كما كان في الماضي البعيد، ونحن نرى أنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي إثره شر منه؟! إن شرط الدين مستحيل التحقق في ضوء هذه المعادلة الصعبة، فعلينا إذًا أن نكف عن طرح سؤال النهضة، ونقضي أوقاتنا في شيء غيره؛ كأن نحرس حضارة بادت، ونحرس بُناتها، فذاك للأسف ما تُخطط له مثل هذه الأفكار المهيمنة، ويسعى بها أصحابها له، وذاك الذي خافه كارل بوبر على حضارته، وأدرك خطورته عليها، وهذا الذي جعلني أرتاب من هذا الخطاب الثقافي الذي يرى التأريخ انحدارا مستمرا، وتقهقرا دائما، وتقف نفسي في قبوله، فمن يؤمن به ويقبل بمعناه منقاد رغما عنه إلى ثقافة الحراسة، ومصطبغ فكره، مهْما حاول، بها، ومشرعن للتقليد والآبائية بالدين، والدين قد حاربهما، وحذّر منهما، وكيف تقوم حضارة وتنشأ نهضة على ما حذّر منه الدين، وخوّف الناس منه؟. نقلا عن الرياض

arrow up