بعض الأشياء الصغيرة في أعين البعض كبيرة !

الإعلانات والملصقات الكبيرة عند مداخل المدن الكبرى تشكل مكوناً هاماً لهوية المدينة، أكثر من ذلك وأهم منه أنها تعبر عن المجتمع وتخبر عن تطلعاته ونظرته لنفسه وطريقة تفكير أفراده ومؤسساته، وباختصار شديد هذه اللوحات هي المرآة التي يرى فيها زائر المدينة روحها نونظرتها المستقبلية. وإذن فإن الجهات المسؤولة عن المدينة لا تتركها ساحة خاوية بلا رقيب ولا حسيب لأهواء كل وتصورات كل من دفع درهمين يفعل فيها وبها ما يشاء.
قبل عقدين من الزمان كنت أعبر الجسر بين مدينتي الشارقة ودبي وعلى مدخل الشارقة بعد الجسر تطالعك لوحة كبيرة كتب عليها بخط كوفي جميل (ابتسم .. أنت في الشارقة) وكل من يقرأ هذه اللوحة بعبارتها تلك كان يستشعر انشراحاً في صدره وقد تجد الابتسامة طريقها إلى شفتيه لا إرادياً. ولأن المجتمعات تعبر بهذه اللوحات عن نفسها ساقتني رحلة عمل وسياحة إلى اليابان قبل عامين تقريباً والتقطت عيناي أول ما التقطت وأنا خارج من المطار لوحة كبيرة تستقبل بها المدينة زائريها مكتوب عليها باللغتين اليابانية والإنجليزية (فكر.. تبدع). نعم إنهم يدعون مواطنهم وحتى الأجنبي الذي يزور بلدهم ويذكرونه بأن التفكير هو الطريق إلى الإبداع.
فكيف يبدو وجهنا على مرآة لوحاتنا التي تستقبل القادمين إلى بلدنا؟. لقد صفعتني وأنا خارج من مطار الملك عبدالعزيز بجدة لوحة كبيرة تستقبلك وأنت تخطو خطواتك الأولى إلى (العروس) تعلمك بأن (أرز أبو كاس يمخمخ الراس). فقارن (يا هداك الله وألحك) بين من يحرِّضك على التفكير لتبدع، ومن يدعوك إلى الابتسام وأنت تدخل مدينته، وبين من يوصيك ناصحاً بأن تحرص على «مخمخة عقلك» بكبسة أرز معتبرة.
حسناً، لا مانع من أن يدعو صاحب السلعة للإعلان عن سلعته والترويج لها والتغني بمزاياها ومحاسنها فالكل يفعل ذلك هذه الأيام (وكل أغنية بثمنها)، فهذا من حقهم طالما هم يدفعون للقنوات وأمانات المدن، ولكن الشارع حق عام، لا تملكه شركة أو أمانة أو وزارة، بل إن الجهات الرسمية كالوزارات والأمانات والبلديات وظيفتها الأساسية هي المحافظة على الشوارع كحق عام. وبهذه المثابة فإن الشارع هو عنواننا نحن كشعب ووطن.. لا أرغب الخوض في جدل كثير الآن.. ولكنها همسة في أذن من يهمهم الأمر: دققوا قليلاً، فبعض الأشياء الصغيرة في أعين البعض كبيرة في عين آخرين.