رئيس التحرير : مشعل العريفي
 أ.د.صالح بن سبعان
أ.د.صالح بن سبعان

رثاء حديقـــة... "قصـة" هذه الحديقة المكلومة !؟

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

إجتاحني حزن عميق وأنا أشاهد بأسى حدائق حي الجامعة وقد تمدد العمران العقاري والسكنى يمزق أوصالها ليقتلع خضرتها ويحيلها إلى مستعمرة للإسمنت والطوب والخرسانة بشرايينها المعدنيـة .

أحسست بالحزن لأن السرطان الإسمنتي أتلف رئة من أكبر الرئات التي كانت تتنفس بها مدينة جده . في الوقت الذي يتعالى صراخ علماء الأحياء والبيئة محذرين من كارثة بيئية تكاد أن تصيب الكوكب في مقتل ، جراء عمليات تجريف المساحات الخضراء على الأرض ، ومخلفات العمليات الصناعية التي ثقبت حزام الأوزون الذي يمثل غلافاً واقياً للأرض من الأشعة الضارة المتساقطة عليها من الشمس .

وفى الوقت الذي يحذرنا فيه الأكاديميون والعلماء من أبنائنا بأن هذه المدينة مهددة بكارثة بيئية ، ونقرأ فيه كل يوم بالصحف التحقيقات التي تتناول مشاكل التلوث البيئي نتيجة لسوء مصارف المياه الصحية ، ويدرس ولاة الأمر كيفية الاستفادة منها لتصبح صالحة للاستعمال مرةً أخرى ، ومن ضمن أوجه الاستفادة منها توظيفها في الري ، وعياً منهم بأهمية الخضرة في التوازن البيئي ، ليس من ناحية جمالية فقط ، لأن مثل هذه الحدائق تمثل لمثل هذه المدن التي تكتظ بالبشر وبالسيارات والمصانع الصغيرة والكبيرة ، رئة تتنفس بها ، لأن الأشجار تمتص ثاني أوكسيد الكربون وتحوله إلى أوكسجين ، والذي هو من أولى مفردات وأبجديات الحياة على الأرض ، وكل الكائنات الحية .

هذه هي الأسباب الموضوعية والعلمية المنطقية التي جعلتني أشـعر بكل هذا الحزن الجارف وأنا أشهد إحدى أكبر رئات جده تغتال على هذا النحو .

إلا أنه ثمة سبب آخر ، خاص وشخصي ، ولكنه عام بنفس المستوى ، إلا وهو "قصـة" هذه الحديقة وتاريخها الخاص ، وارتباط هذا التاريخ بالمجموعات التي تعيش حولها .

فقد كانت هذه الحديقة في بداية أمرها مساكن شعبية تضم بسطاء الناس ، ولد أكثرهم فيها وترعرعوا بين بيوتها وأزقتها ، وزرعوا في كل مكان ذكرى حميمة وخاصة ، إلى أن تم نزعها من أهلها وأعطوا ما قدر لهم من تعويضات ، كانت بالنسبة لبعضهم كافية ، ولكنه كان يشعر بمرارة من فقد شيئاً خاصاً عزيزاً لا يمكن تعويضه ، إلا أنهم حملوا مراراتهم وتوزعوا في الأرض ، مقدرين في النهاية أن الأرض إنما نزعت لتستثمر لصالح توسعات جامعة الملك عبدالعزيز ، وهذا ولاشك هدف سامي لا يعلوا عليه اعتبار مهما كان ، لأن الجامعة هي منارة العلم للوطـن كله ، وهى المستقبل لكل الأجيال القادمة .

إلا أن الجامعة لم تستثمرها ، فقد كفتها مساحة الأرض الممنوحة لها ، فقامت الحكومة التي أ صبحت هي المالك للأرض بعد تعويض أصحابها بتحويلها إلى حديقة . والحق أن حدائق حي الجامعة كانت هي الحديقة الوحيدة الفاعلة في مدينة جده ، فمساحتها تغطى أكثر من (50) ألف متر/مربع ، وكان العدد الذي يؤمها يومياً من الأطفال والنساء والشباب كبير جداً ، ولا يقارن بأية حال من الأحوال بما تستوعبه الحدائق الأخرى ، ويرجع السبب فى ذلك إلى أنها كانت مجانية ، لذا فقد كانت تلجأ إليها الأسر البسيطة التي لا تستطيع توفير المبالغ التي يحتاجها ارتياد الحدائق والمنتزهات الأخرى ، خاصةً من سكان حي الجامعة ، الذي يعتبر من أكبر الأحياء وأكثرها اكتظاظا بالسكان مثله في ذلك مثل الأحياء الشعبية المماثلة في كل العالم . لذا كانت هذه الحدائق هي متنفسهم الوحيد والقريب . كانوا جزء منها وكانت جزء حميماً من حياتهم اليومية ، ركضوا في رحابها وتقلب أطفالهم في حضنها وهم يلعبون .
والآن وزعت هذه الأرض كمنح ليتبدد جزء من حياتهم وتتبخر في الهواء وتكنس الجرارات الثقيلة آثار أقدام أطفالهم التي زرعوها على طين الحديقة ، لتحل محلها أطنان الإسمنت والأحجار والطوب .

arrow up