رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. إبراهيم المطرودي
د. إبراهيم المطرودي

لماذا كرهوا تدوين التراث؟

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

فتح ابن حجر في كتابه "فتح الباري" السبيل إلى معرفة أمر لم يكن لنا، نحن المتأخرين، أن نعرفه، وذلكم هو كراهة طائفة من الأمة للتدوين، وتباعدهم عنه مع حضوره في أذهانهم، ومانعنا من معرفته، والوقوف عليه، هو أننا لم نعش تلك الحقبة، ولم نلتق أهلها الذين اختلفوا في التدوين، ونُقل لنا اختلافهم فيه، وإذا لم تعش الحقبة فمن أين لك أن تعي بما فيها، وتُدركه على وجهه الذي وقع عليه؟ المسلمون الذين يعيشون في هذا العصر، وأمثالهم ممن كان بعد تدوين التراث، لا يتصوّرون فكرة الكراهة، ويعجبون منها، ويرونها خطأ عظيما، ورأيا بعيدا، وإن صدرت من أئمة كالشعبي وأحمد "فمما حدث تدوين الحديث ثم تفسير القرآن ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة عن الرأي المحض، ثم ما يتعلق بأعمال القلوب،..، وأما الثاني فأنكره جماعة من التابعين كالشعبي، وأما الثالث فأنكره أحمد وطائفة يسيرة" (فتح الباري).
وإنكارهم لهذا الرأي، وتعجبهم منه، لا يُستغرب ولا يُعجب منه؛ فهم قد رأوا حسنات التراث، وانتفعوا مما فيه، وكان لهم عونا في حل كثير من التحديات التي تواجههم، ونمت عقولهم من خلاله، ذاك وجه، ووجه آخر وهو أن الإنسان حين يألف شيئا، يطول إلفه له، وليست مسألة تدوين التراث إلا نموذجا من آلاف النماذج، ينكب عليه، وينهمك فيه، ولا يستطيع رؤية نفسه دونه.
حين كتبتُ مقال "كارهو تدوين التراث" وأنا واعٍ بإجماع الأمة بعد نشأة التدوين فيها عليه، وانهماك مذاهبها وأفرادها فيه، واحتفائهم به، وإطباقهم كافة على ضرورته وليس على جوازه فقط؛ كما هي جملة ابن حجر "فأنكره عمر وأبو موسى وطائفة ورخص فيه الأكثرون"، وانتقلت الأمة من الخلاف على التدوين، يكرهة فريق، ويُرخّص فيه آخر، إلى الإجماع على ضرورته، والقول بوجوبه، وهكذا يبدو لنا أن الرأي المستقر يُعدّ خلاف ما كانت الأمة عليه قبل التدوين؛ فالأمة كانت قبلُ يدور رأيها على مذهبين؛ الأول يرى الكراهة، والآخر يرى الرخصة فيه، والأمة بعد ذلك أضحت ترى التراث ضرورة من الضرورات، وتدوينه ركنا من أركان الدين التي لم يُنص عليها، وبوصول الأمة إلى هذه الحالة أصبحت بعيدة عن رأي أسلافها جميعا، فلا هي سارت مع الكارهين، واستأنفت النظر في النص في كل حقبة، ولا هي أخذت طريق المرخّصين الذين ما كان لهم أن يروا تدوين التراث رخصة لولا أنهم كانوا يرون التراث نفسه كذلك؛ إذ لو رأت هذه الطائفة أن التراث، وأخص هنا تفسير القرآن ومسائل الفقه وما يتعلق بأعمال القلوب، شيئا لازما، لا يُمكن للمسلمين، كما هي حالهم بعد ذلك، أن يستغنوا عنه، ويعيشوا دونه، لما كان لها أن تذهب إلى أن تدوينه رخصة، وكيف ترى تدوينه رخصة، وهي تعدّه لازما في معرفة المسلمين دينهم، وتعرّفهم عليه؟
حين أنظر إلى موجز موقف المسلمين من التدوين، وهو الموقف الذي حكاه ابن حجر في الفتح، من خلال ما استقرّ بعد ذلك في العقل المسلم؛ أُدرك البون الكبير بين مسلمي ما قبل التدوين، ومسلمي ما بعد التدوين، وأرى أن جزءا كبيرا مما نُعانيه، وتُعانيه الأمة في حقبها السابقة واللاحقة، راجع إلى خروج أمة ما بعد التدوين عن سنة أمة ما قبل التدوين، وهو خروج تحوّل معه التراث الذي اختلف في تدوينه الأسلاف إلى جزء من النص الديني نفسه، وحلّ محله في كثير من الأزمان، وانشغل به المسلمون شرحا وبيانا، وكأنه النص الأصلي الذي أُريد لهم أن ينهمكوا فيه، ويتلوه صباح مساء؛ بحثا عن معانيه الكنيزة، وعجائبه الوفيرة.
المسلمون اليوم، ومنذ أن سادت فيهم فكرة التدوين وتحوّلت إلى شرط لفهم الإسلام، لا يستطيعون قبول فكرة كراهة التدوين، ولا تطيب خواطرهم بالحديث عن السؤال المطروح في عنوان المقال "لماذا كرهوا التدوين"؛ بيد أني وفاء للأئمة الكارهين، وإيمانا أن وراء ذلكم الموقف أسبابا علمية حريّة بالقبول، وحرصا على إيصال فكرتي؛ أحب الخوض في الحديث عن السؤال، وأرى الحديث عنه مكملا للقول في القضية، فأقول مجددا: ما الأسباب التي دعت الأئمة، بعد الفاروق، إلى تدوين التراث؟
لا أملك جوابا شافيا لهذا السؤال، ولستُ حريصا على تقديم الجواب في هذا السياق؛ لأنني ما تحدثتُ في المسألة حتى أُريح القراء من عناء التفكير في القضية، وأبذل لهم الجواب فيها، وإنما رُمتُ أن يشاركوني في قراءة القضية، وتدبر أبعادها، وأنا بدوري أُقدّم ما أجده، وأضعه بين أيديهم، ومحاولتي في الجواب تنحصر في النظر إلى كراهة التدوين من خلال ما استقرّ عند المسلمين بعد ذلك، فكيف يُمكن التوفيق بين اختلاف الأولين وإجماع المتأخرين على رأي لم يكن ضمن الآراء المنقولة عن السلف الأولين (مسلمو ما قبل التدوين)؟
لو أخذتُ مسلما من عصور ما بعد التدوين، وسألتُه عن تدوين التراث، أهميته للدين وقيمته في مذهبه وعند أفراد طائفته؛ لما كان له أن يقول لي سوى أن تدوين التراث كان ضرورة لحفظ الدين، وحفظ مذهبه الصحيح، ومعرفة أعلامه الذين نصحوا للحق واجتهدوا في بيانه، ولو أن التراث تُرك ولم يُدوّن لضاع كل شيء، وضرب المسلمون في متاهة لا نهاية لها؛ فلا هم عرفوا دينهم، ولا وقفوا على الصحيح من مذاهبهم، ولا هم ميّزوا المحق من أسلافهم.
ذاكم هو جواب كل مسلمي ما بعد التدوين تقريبا، وأنا أُواجههم بالمنطق نفسه الذي طالما واجهوا به أصحاب الأفكار الجديدة فأقول: كيف ساغ لكم أن تخرجوا عما كان عليه أسلافكم الذين لم يكن واحد منهم رأى رأيكم في التراث وتدوينه؟ وكيف ارتأيتم أن تخرجوا عن إجماعهم؟ أتقولون لنا: إن إسلافنا كانوا يرون في التراث ما نراه، ويذهبون مثلنا إلى ضرورته، وقد اختلفوا فيه، ولم يُنقل لنا عن أحد منهم ضرورته للدين ولزومه لفهمه؟!
إنكم إن نظرتم إلى أسلافكم من خلال ما استقرّ عندكم في التراث؛ فسترون بوضوح أن العقل الذي كان مهيمنا في تلك الحقبة مختلفٌ تمام الاختلاف عن العقل الذي كان له السيطرة على المسلمين في مرحلة ما بعد التدوين، فأي العقلين أهدى سبيلا بعد أن رأينا عبر مراحل التأريخ أن التراث تحوّل إلى أداة تفريق بين المسلمين، وسدّ منيع عن قراءة النص الأول، والتأمل فيه من جديد؟ نقلا عن الرياض

arrow up