رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. إبراهيم المطرودي
د. إبراهيم المطرودي

لماذا يُنتقد التراث؟!

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

مصطلح التراث مصطلح عام، و(أل) فيه للجنس، ويندرح تحته كل النشاط الإنساني الموروث عن الأسلاف، فمنه التراث الديني، وفيه أنواع مختلفة منها العقدي والفقهي والأصولي، ومنه التراث اللغوي، الدلالي والنحوي والصرفي والبلاغي والنقدي، ومنه التراث العلمي، الطبي والفلكي والجغرافي، وكل هذه الأنواع وغيرها يُقبل انتقادها، وإن على مضض من أصحابها والمتخصصين فيها، إلا التراث الديني، وأخص منه العقدي، فالناس رافضون لنقده، ومحجمون عنه، ومرتابون من كل من يُقدم على ذلك فيه، والغريب أن هذا النوع من التراث هو الذي جعل المسلمين أحزابا، وفرّقهم أمما، وأوقفهم حراسا على هذا السياج الذي يمنعهم من الاتصال بالآخرين، ويحول دونهم ودون إخوانهم المخالفين لهم، فما الذي جعل معظم أنواع التراث تقبل النقد، وتحتاج إلى تكملة المتأخر، ولا ترتاب منه كثيرا، ومنع التراث العقدي أن يكون على تلك الشاكلة، وينطبق عليه من السنن ما ينطبق على غيره؟
ما يحزّ في الخاطر، ويثقل على القلب، أنْ يجد المرء المسلمين يشتركون في صناعة التراث الأصولي، ويجتمعون على إنماء التراث اللغوي، ويتكاملون في إنضاج التراث الطبي، ويتساندون في إكمال وجوه التراث البلاغي والنقدي، ويُنظر إليهم في إتمام هذه الأنواع وإنضاجها كأمة واحدة، لا فرق بين أفرادها، ولا فواصل بينهم، ثم حين يُنظر إليهم من خلال التراث العقدي؛ تتحول هذه الأمة إلى أمم، وينقلب ذلكم الاجتماع إلى فرقة، وتصير تلك الإلفة إلى عداوة، فما الذي جعل الجهود في التراث العقدي تفترق ولا تجتمع، وأصحابها يتنازعون ولا يتكاملون؟
إن التراث الذي يُفرّق بين المسلمين، ويمنع تلاقيهم، ويحول دون تكاملهم، ويُصيّرهم جزرا متباعدة؛ هو التراث الذي يُنتظر منهم أن ينتقدوه، ويُقلّبوا صفحاته، وينشغلوا بما فيه؛ إن كانوا يؤمنون أن كل امرئ لا يُكلّف إلا بما يُطيق، وأن (كل نفس بما كسبت رهينة)، ولعلهم أن يسعوا جاهدين لتبقى تلك الميادين المشتركة (التراث الأصولي، والطبي، والنقدي، والبلاغي، وغيرها) ميدانا يلتقون فيه، ويتغلّبون به على ذلكم الميدان المفرق، ويقود اجتماعهم فيه إلى تعاونهم على إصلاح ذلكم التراث، وتلافي أضراره.
حين يرد مصطلح التراث في حديث نقدي؛ يتعامل معه القراء حسب مفهومه المهيمن عليهم؛ فتجد طائفة تتأزم منه وتغضب من نقده؛ لأنها ترى التراث حصيلة مذهبها ورجاله، وأي نقد يُوجّه للتراث فهو عندها إسقاط لهيبة مؤلفيه وطعن فيهم وإهدار لجهودهم، فتنشط هذه الجماعة في المحاماة والدفاع، وتصوغ القضية على أن الكاتب ينتقد التراث، المقرون بالألف واللام الجنسية، وتسعى جاهدة أن تُظهره هكذا؛ بيد أن هذا الكاتب لو تناول تراث جماعة أخرى، وأوسعه نقدا، وأكثر على رجاله الغارة؛ لرأيتَ البِشر في وجوه تلك الجماعة، ولسمعتَ الثناء العاطر منها على الكاتب، وما خطّت يمينه، ولعُدّ أحد الأبطال في زمن اضمحلت فيه البطولة، وتبخّرت فيه معانيها.
فات هذه الجماعة، وفات المتحدثين عنها، أنّ التراث يضمّ بين دفتيه ذينك التراثين معا؛ إذ المقدّس والممتهن سواء، وليس يفوق أحدهما الآخر إلا عند محبيه والمعجبين برجاله، وما يُنتظر من المحب والمعجب إلا الثناء والمدح والدفاع، وما طلب الناسُ قط الانتصاف من محب ومعجب؛ فلنضع معا الأمور في نصابها، ولنُجرِها في ميدانها؛ حتى لا يضيع تلمّس الصواب، ويندثر تطلّب الحق؛ لأن الناس حين يرونك تُفرّق بين المتشابهات، ولا تُساوي بين المتماثلين؛ يكرهون حكمك، وينزعون إلى مثل سبيلك، وبهذا ينشغل الناس عن تحصيل الحق، وتتعطل قواهم في البحث عنه، وتصبح غايتهم أن يقولوا: تراثنا ليس كتراثكم، ورجالنا ليس كرجالكم، فتجزع كل طائفة، كما هو حاصل الآن، من أبنائها أن ينتقدوا تراثها، ويتفقدوا أخطاء رجالها؛ لأنها في معركة وجود مع مخالفها، تتطلب أن يقف الناس صفا واحدا، وينصر بعضهم بعضا، ومن يشذ عن ذلك؛ فهو للعدو مناصر، وله خادم! وهكذا ينتظر المسلمون زمنا تصلح فيه الأحوال، وتخف فيه حدة الصراع، وهو زمان لم يكن في الماضي، ولا أحسبه كائنا في المستقبل، وفي مثل هذه الأجواء يصبح النقد مشروطا بشيء لم يتحقق ولن يتحقق؛ لأن الخلاف بين الناس أصل ثابت، والوفاق أمر عارض، ولو لم يكن من عيوب التراث العقدي إلا هذا لكان جديرا به أن يدفعنا جميعا على نقده، وتفقُّد أخطاء رجاله؛ فهو قد شغلنا بما فيه عن البحث فيه.
خلاصة المقال أن كل تراث تقريبا يجري نقده من ناحيتين؛ الأولى من حيث قضاياه ومسائله وجزئياته، والثانية من حيث مقارنته بغيره، الأولى نقدي داخلي يتكئ على قواعده وأسسه، والثانية نقد خارجي ينهض على المقارنة بينه وبين غيره، وقد آثرت هذه المرة أن أُسلّط الضوء على التراث العقدي من خلال أنه التراث الوحيد الذي يدعو للفرقة، ويُؤسس لها، ولا يسمح للمسلمين أن يتكاملوا في معرفته، ويتعاونوا على تمام قضاياه، وكل ذلك فعلتُه حتى تظهَر للقراء الكرام علة نقد هذا النوع من التراث، ويتبين لهم أن المسلمين لا يُنظر إليهم كأمة واحدة إلا حين يُنظر إليهم من خلال هذا التراث، فهل يريد المسلمون أن يبقوا أمة واحدة، ويُعرفوا بميادين اشتراكهم، فيرجعوا إلى هذا التراث بالنقد والإصلاح، أم يريدون أن يُفرّقهم التراث العقدي، ويكونوا أحزابا مختلفة، وجماعات متفرقة؟ نقلا عن الرياض

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up