رئيس التحرير : مشعل العريفي
 نجيب الزامل
نجيب الزامل

لا تقولوا: «كل عام وأنتم بخير!»

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

.. كنا في جَمْعة العيد والنقاش حول الجملة المتكررة بكل مناسبة دينية أو زمنية: «كل عام وأنتم بخير»
ويقول أجهرُنا صوتًا وأكثرنا اعتراضا: «مللنا من جملة (كل عام وأنتم بخير)، إنها ساذجة مفرغة لا تدل إلا على تكرار سقيم، فكيف نقول خيرا، وكل شيء حولنا يتدهور أمن، واقتصاد، ومهددات بالداخل والخارج، وضيق بالحياة كل يوم يعصرنا أكثر؟ لما كنا بأيام الخير المقبول سكتنا، أما الآن ونحن بهذه الحالة فلا يجب أن نكون سذجا بعيدين عن الواقع نردد جملا لا توحي إلا بالانفصال النفسي أو اللغوي عن الواقع. خلاص أوقفوا جملة كل عام وأنت بخير.. لأنها تقهر!»
وصاحبنا ظلم نفسه قبل أن يظلمنا. مع تقديري لكل الظروف التي ذكرها وهي بمجملها صحيحة ولكنها لن تدفع واحدا مثلي أن يغير الجملة أبدا، بل أن يتمسك بها أكثر، وأراها أكثر الجمل تبصرا، وإن لم تكن واقعا فهي التي يجب أن تُقال؛ كي نصنع الواقع الذي نحبه.
أحب أن أناقش صاحبنا منطقيا كما قال، ويجب أن أستعرض أمامه الدين أولا ثم البداهة. في الدين الإسلامي أمرنا النبي -صلى الله عليه سلم- بأنه إن كان بأيدينا فسيلة، وعرفنا أنه اليوم الأخير في الدنيا ونعرف أن بالغد ستكون القيامة، فعلينا زرع الفسيلة. وهذه قيمة عظمى للأمل والعمل والتفاؤل. بينما المنطق العقلي الحاضر سيقول إن رمي الفسيلة هو التصرف الصحيح؛ لأنه لن يكون في الغد شجر من أصله، وسينتهي كل شيء عرفناه بالدنيا لأن الغد يوم القيامة. من يكون واقفا بتلك اللحظة قد يقف مع ذاك الواقعي المنطقي، وهذه هي المعرفة الضيقة.
لماذا أقول المعرفة الضيقة؟
تعرفون «اسبينوزا» المفكر الهولندي الضخم ببدء عصر النهضة الأوروبية والقارة تنتشل نفسها من غياهب ظلام الجهل والتخلف الإنساني والفكري والديني. جاء سبينوزا وهو الخليط الغريب من الديانة اليهودية، وأتقن دراستها، فهو من اليهود الذين هربوا من أسبانيا بعد أن انتهى حكم العرب نهائيا، ولجأ أهله لهولندا وأخذوا جنسيتهاـ وتحول مسيحيا ثم صار لا أدري وعاد لدينه واختلفت الروايات، كما أنه عالم تطبيقي وليس نظريا، كان فنه صنع العدسات الطبية وهذه تحتاج علوما ثلاثة هي الفيزياء والهندسة والرياضيات. وهو باتفاق الجميع أكبر عقل أوروبي في القرن السابع عشر منهم من قال بعد ديكارت ومنهم من قال قبله. اسبينوزا هذا قسم المعرفة إلى أقسام ثلاثة ساحرة ومنطقية، عرفتها من قراءاتي الأولى قبل المرحلة الثانوية ووضحت لي كيف هذه الحياة تسير في المطلق الأوسع.
المعرفة حسب سبينوزا تنقسم لثلاثة أقسام ولنطبق عليها قول صاحبنا:
المعرفة الضيقة: وهي التي ترى الواقع المحصور باللحظة أو الزمن بالحبوس باللمس الواقعي وهي معرفة صاحبنا لأنه حكم أن الأمور ليست خيرا في لحظة زمن محصور، وبالتالي هي معرفة مباشرة ضيقة بلا توقع ولا خيال.
المعرفة الجيدة: وهي التي تُعمل العقلَ مع التوقع ولكنها تبني التوقع القادم فقط على ما سبق من مجاميع المعرفة الضيقة ـ تماما كما نفعل في الميزانيات المالية، أو دراسات الجدوى الاقتصادية.
معرفة الإدراك الكلي: وهي ببساطة التي تقيس كل المحصلة العامة المنسية في الماضي السحيق والمدركة في المستقبل الآتي. اشرح لكم. مر العالم من خلقه لليوم بكل الحروب الممكنة من مصارعة اليد على قنابل الذرة، ومرت شعوب الأرض بأمراض سارية كاسحة حتى أنه كان يتوقع في أوروبا أثناء الطاعون أنه لن يعيش أحد بنهاية العام. و«مالتوس» صاحب نظرية أن القرن العشرين ستنتهي به الحضارة والإنسان؛ لأن موارد الأرض ستنفد؛ لأنها إما لا تتزايد أو أنها محاصيل تتزايد حسابيا، والبشر يتكاثرون بمضاعفات هندسية. ها نحن في القرن العشرين، وما شاء الله زدنا أضعافا بشرًا وغذاءً
لذا أمر رسولنا الكريم من خلال المعرفة الكبرى بزرع الفسيلة.
وأؤكد عليكم ثقةً ويقينًا وإيمانًا: كل عام وأنتم بخير.
نقلا عن اليوم

arrow up