رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالله بن بخيت
عبدالله بن بخيت

نهاية الخلود الزائف

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

منذ فجر التاريخ إلى عقد التسعينات من القرن الماضي كان التاريخ مدونة يكتبها المنتصر. أتذكر عبارة تنسب إلى صدام حسين الرئيس العراقي الأسبق قالها رداً على أحد المنافقين من رجاله. أفشل صدام انقلابا ضد حكمه وأثناء نشوة النصر وصف هذا المنافق الانقلابيين بالخونة وأعداء الوطن. فرد عليه صدام قائلا لو انتصروا لكنا نحن الخونة وأعداء الوطن. لا أعرف كيف نبتت هذه اللمعة في عقل ذلك الرجل الأرعن. حكمة عظيمة. يجب أن تدرس في كل مدارس العالم. كل من انهزم في السياسة صار خائناً وكل من انتصر صار بطلا خالدا. خذ جولة في مجلات وجرائد عقد الثمانينات من القرن الماضي في سورية على سبيل المثال. ستتأكد أن حافظ الأسد كان الرفيق المناضل ومجدد الثورة وباني سورية الحديثة ومحرر الجولان حتى قبل أن يحررها. هكذا كان يسير التاريخ ويحشى في رؤوسنا في المدارس.
أحيانا أشعر بالأسف على حال القذافي. من قائد ثورة وموحد العرب ووريث عبدالناصر ومحرر فلسطين وزعيم افريقيا لينتهي أضحوكة القنوات الفضائية والإنترنت. أين الكتب التي سطرت في مجده وأين الخطب المجيدة والقصائد العصماء. انتهى مصيرها كما قال البلشفي المنشق تروتسكي (مزبلة التاريخ).
ماذا لو أن القذافي جاء قبل أربعة قرون أو خمسة ولم يورطه حظه العاثر أن ينتهي مع تفجر وسائل الإعلام الجديدة. لن أبالغ إذا قلت كنا اليوم قد حفظنا القصائد التي قيلت في مجده ولصدحت منابرنا تدعوه أن يخرج سيفه من قبره ودعونا الله أن يقيض لعصرنا واحدا مثله، ولتفرغ عدد كبير من المثقفين والإعلاميين وأساتذة الجامعات لتفسير كتابه الأخضر الخالد وفي كل دولة إسلامية ستشاهد الكليات والمعاهد مسجلة باسمه تيمن بسيرته العطرة.
نور الدين زنكي وصلاح الدين وسيف الدولة و هارون الرشيد وسليمان القانوني. ربما صاروا ما صاروه لأنهم نجوا من اليوتيوب ومن السناب ومن التويتر فاصبحوا أبطالاً خالدين.
ما عجزنا عنه طوال قرون جاءت وسائل الإعلام الحديث تفرضه علينا. وسائل الإعلام اليوم تفضح كل شيء يوماً بيوم. صارت الناس تسمع خطاب الزعيم الأوحد ونقده في نفس الوقت. صوته وصوت أعدائه على حد سواء.
طرحت قبل سنوات فكرة جهنمية. حلم بعض المستقبليين أن يتم اختراع جهاز يعيد الأصوات التي صدرت عبر التاريخ كله. يحدد فترة وموقع ونوع الأصوات فيقوم هذا الجهاز باستعادتها. مثلا يحدد العصر الأموي ثم يحدد المكان المطلوب وتاريخ الاجتماع فيقوم الجهاز باستعادة الحوار الذي دار في ذاك الاجتماع. لو اخترع مثل هذا الجهاز كم من الأمجاد سنخسر. شيء مريع. بيد أن الأجيال القادمة حصلت تقريبا على هذا الجهاز أو قريب منه. لا نحتاج ان ننتزع الأصوات من الهواء في عصورنا القادمة.
الأصوات التي نريدها يتم تسجيلها في صفائح الأميركان الإلكترونية. كل ما قيل في اليوتيوب والتويتر والمدونات والسناب والفيس بوك ستبقى خالدة وفي متناول أصحاب القرار الأخير. ستقرأ الأجيال القادمة الشيء ونقيضه. التاريخ بوجهيه المتصادمين زال عصر الزعيم الخالد.. ولن يبقى خالداً إلا وجهه ذا الجلال والإكرام.
 
نقلا عن الرياض

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up