رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالحميد العمري
عبدالحميد العمري

الأراضي السكنية البيضاء 28 مليار متر مربع

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

حينما تغيب البيانات والإحصاءات في أي مجال، يحضر فورا الجهل والفوضى بل يسيطران على المستويات كافة، وحينما يسيطر كل من الجهل والفوضى، تنشأ تحت ظلامهما الدامس قرارات وإجراءات عشوائية تتوالى في اندفاعها على غير هدى، فتزيد التعقيدات وتغوص بيئة المجال المعني بغياب تلك الإحصاءات في غياهب الجب، فلا ترى إلا مؤشرات التأخر ومعاناة المتأثرين من تلك الوعثاء، وتظل تدور في حلقة مفرغة لأزمان طويلة، تبحث جاهدا عن حل أو مخرج من هذه الورطة، لكنك سرعان ما تصطدم بمزيد من المعوقات والتطورات المعاكسة تماما لكل ما سعيت لأجل معالجته وحله.
جميعنا كنا ولا نزال نجول بسياراتنا وسط شوارع مدننا الكبيرة والواسعة، تقع أبصارنا على مساحات شاسعة من الأراضي الخالية من حولنا، في الوقت ذاته غلفتنا من جميع الجهات أزمة تنموية كأداء، أطلق عليها "أزمة إسكان"، امتد بها العمر طويلا على رؤوسنا إلى أن شابت وشاب معها رؤوس أغلبنا، ورغم هذا التناقض المبين بين ما نشاهده بصورة يومية من اتساع مساحات الأراضي الخالية من الحياة داخل المدن من جانب، ومن جانب آخر ارتفاع سخونة "أزمة الإسكان" بصورة فاقت كل الاحتمالات. كيف نشأت هذه الأزمة التنموية المعقدة، في الوقت ذاته الذي ترى هذه المساحات الشاسعة من الأراضي؟ لتزداد الأمور تعقيدا في مرحلة لاحقة؛ حينما "أفتى" من تأكد لنا فيما بعد أنه هو نفسه أحد أسباب الأزمة، موضحا أن ما أسماه بـ "شح الأراضي" هو سبب أزمة الإسكان!
تذكر ماذا يحدث لأي مجال تغيب إحصاءاته كما أوضحت في مقدمة المقال! تلك باختصار شديد حكاية أزمة الإسكان لدينا. كان قيام وزارة العدل مشكورة بالنشر المنتظم والشامل لإحصاءات السوق العقارية في منتصف 2014، أول وأهم خطوات إضاءة جنبات السوق العقارية المحلية، التي عانت طوال عقود مضت عتمة الجهل بخفايا ما يدور فيها من نشاط، ترتب على نشر تلك الإحصاءات وتحليلها صدمة للجميع، وأول من تعرض لتلك الصدمة هم أنفسهم المتعاملون النشطون والكبار في تلك السوق، مع عدم إغفال دور مؤسسات الإعلام المختلفة، التي أسهمت بدورها مشكورة في نشر تلك الإحصاءات وتحليلها لعموم أفراد المجتمع، وفي مقدمتها بكل تأكيد صحيفة الاقتصادية.
المؤكد أن شريحة من أفراد المجتمع وأنا منهم، لم تنطل عليهم حيلة تجار الأراضي والعقارات، حينما فسروا أن أهم أسباب أزمة الإسكان يكمن في "شح الأراضي"، ولا أذيع سرا هنا أنه طوال الفترة التي تم الترويج لتلك المقولة الكاذبة في رأيي، كنت أبحث عن مصدر رسمي يؤكد لنا جميعا حجم ومساحة تلك الأراضي الشاسعة داخل المدن والمحافظات، وعلى الرغم من ضعف نتائج ذلك البحث، التي لم تفصح إلا عن ثلاث مدن كبرى بحد أقصى، إلا أنها كانت كافية جدا لإثبات عدم مصداقية المقولة الزائفة "شح الأراضي" كسبب واه لأزمة الإسكان، لكن في الوقت ذاته لم تكن تلك النتائج كافية لأن تجيب على السؤال الأكبر والأهم: كم يبلغ إجمالي مساحة الأراضي السكنية البيضاء الشاسعة، الخالية من الاستخدام والتطوير داخل جميع مدن ومحافظات المملكة؟
لتأتي الإجابة القاطعة أخيرا بعد سنوات طويلة من الانتظار، على صفحات التقرير السنوي 1436هـ لوزارة الشؤون البلدية والقروية (نشرته صحيفة الاقتصادية بالتفصيل في عددها 8379 الإثنين الماضي 19 أيلول "سبتمبر 2016)، كان من أهم ما أظهرته البيانات التقرير السنوي للوزارة، الإجابة عن السؤال الأكبر والأهم (كم يبلغ إجمالي مساحة الأراضي السكنية غير المستعملة داخل المدن والمحافظات؟)، ليؤكد التقرير السنوي الإجابة هنا، بأنها المساحة التي تفوق 27.6 مليار متر مربع (أي ما يشكل 67.4 في المائة من إجمالي مساحة الأراضي السكنية داخل المدن والمحافظات)! وكم كانت الصدمة أكبر، حينما كشف التقرير عن مساحة جميع ما تم استخدامه لإنشاء المساكن في المدن والمحافظات كافة، أنها بلغت بنهاية 1436هـ نحو 13.3 مليار متر مربع (أي ما يشكل 32.6 في المائة من إجمالي مساحة الأراضي السكنية داخل المدن والمحافظات). بمعنى آخر؛ أظهر التقرير السنوي لوزارة الشؤون البلدية والقروية، أن مساحة الأراضي البيضاء الخالية من أي استخدام لغرض الإسكان، تفوق تماما "ضعف" مساحة جميع ما تم استخدامه وتطويره للسكن في تلك المدن والمحافظات منذ تأسيسها إلى يومنا هذا!
الصدمة الأخرى؛ بالعودة إلى مساحات الصفقات العقارية على الأراضي السكنية لعام كامل، الصادرة عن وزارة العدل لعام 1435هـ (720.2 مليون متر مربع) وعام 1436هـ (509.4 مليون متر مربع)، ونسبتها إلى إجمالي مساحات الأراضي السكنية البيضاء داخل المدن والمحافظات، يتبين عدم تجاوزهما نسبتي 2.6 في المائة ونحو 1.8 في المائة على التوالي، بمعنى أن ما لا يقل عن 98 في المائة من تلك الأراضي السكنية البيضاء خارج تعاملات السوق العقارية، وماذا يدفع ملاك تلك الأراضي الشاسعة لبيعها؟ وأسعارها السوقية تتنامى عاما بعد عام دون بذل أي جهد أو تحمل أي تكلفة تذكر! هنا تبرز الأهمية القصوى لفرض الرسوم على تلك الأراضي البيضاء، بهدف محاربة احتكارها ودفعها نحو التطوير والاستخدام لأجل الغرض المستهدف منها، تبقى الإشكالية هنا حول نسبة الأراضي التي سيتم تطبيق الرسوم عليها، كلما جاءت تلك النسبة كبيرة لتشمل أكبر قدر ممكن من الأراضي، كان تأثير الرسوم قويا ومحققا للأهداف التي لأجلها أقرتها الدولة، والعكس صحيح.
الخلاصة مما تقدم؛ أن المشهد العام للسوق العقارية والإسكان بكل تفاصيله الدقيقة، بعد اكتمال البيانات والإحصاءات المتعلقة بهما (وزارتا العدل والشؤون البلدية والقروية)، أصبح مختلفا تماما عما كان عليه طوال عقود طويلة مضت، وهو ما سينعكس إيجابيا على عموم القرارات والإجراءات كافة، سواء تلك الصادرة عن الأفراد الباحثين عن تملك مساكنهم، أو الصادرة عن بقية الأجهزة والمؤسسات ذات العلاقة بالسوق. تأكد أن الأزمة الإسكانية مفتعلة من جذورها، وأن لا أساس لوجودها قياسا على هذا الوفر الهائل جدا من الأراضي السكنية، بل يكفي القول إن ما لا يزيد على 10 في المائة من مساحات تلك الأراضي غير المستعملة، كاف جدا لتلبية الطلب الراهن على الأراضي والمساكن، حتى في منظور الأعوام الخمسة القادمة! والله ولي التوفيق.
نقلا عن الإقتصادية

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up