رئيس التحرير : مشعل العريفي
 فهد الأحمري
فهد الأحمري

العوام هوام

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

العوام هم الذين دفعوا أموالهم لاقتناء أشرطة وعاظ الكاسيت، واشتروا إصداراتهم وكتبهم حتى أصبح القوم من أثرياء المجتمع وخواصه . يضج المكان بصوته العارم "غضبةً‪"‬ لحمى الدين من أولئك المتهاونين بمسائل شرعية تمييعا وتضييعا للثوابت، يرتفع صوته المتهدج في المسجد وهو يستنكر على من جعل الثوابت مسائل خلافية! الغناء خلافية، الحجاب خلافية، الإسبال خلافية، الأخذ من اللحية خلافية، يتساءل: فما الذي بقي إذاً من الدين؟ يتأثر الحضور أيما تأثر، ومن هؤلاء الحضور طالبه النجيب أحمد الذي يتلقى درسه الخاص على يدي فضيلته. وفي نفس يوم "الغضبة" المشهودة يواصل أحمد قراءة الكتاب الفقهي "المُغني" على يد فضيلته في جلسة خاصة.
وفي الصفحة يتحدث المؤلف عن المسائل الخلافية، كالغناء التي يبيحها بعض أهل العلم! يرفع المريد رأسه عن الكتاب باتجاه شيخه احتجاجا على المؤلف، واعتذارا لمعلمه.
يبادره الشيخ: هي فعلاً خلافية غير أننا لا نريد ذكرها لعامة الناس، فلكل مقام مقال وحدثوا الناس بما يعرفون! يصعق التلميذ شيخ المستقبل مما قاله شيخه المخضرم ويعتبر هذا تلونا غير منطقي.
ينتبه الشيخ لتناقض فضيلته أمام مريده فيستدرك محاولاً حل اللغز كي لا تسقط هيبته في نظر تلميذه: "لتعلم يا بني أن البخاري بوّب باباً في جواز كتمان بعض العلم للمصلحة، والشباب لو علموا أن الغناء مسألة خلافية قد يذهبون جميعاً إلى محلات الأغاني لأنهم لا يدركون الأحكام ولا دلالات النصوص، ثم إن الناس تربوا على أن تحريم الغناء من الثوابت، ولذلك نرفق بهم ونقول لهم ما يعرفون، ولعلنا يوما من الأيام نوصل العلم كما هو، لكن ليس الآن يا بنيّ"! وأمام ذهول الشيخ الصغير والصعقة التي تلقاها هذا اليوم، يود أحمد أن ينهي الموقف بسؤال شيخه: "وهل المسائل الأخرى التي أغضبت شيخنا اليوم جراء تمييعها كالحجاب والإسبال والأخذ من اللحية من ثوابت الدين أم هي خلافية أيضاً؟".
في هذه اللحظة يتمنى التلميذ أن تأتيه الإجابة بالنفي كي يظل لشيخه شيء من المصداقية التي رسمها له، غير أن الإجابة كانت صادمة: "نعم يا أحمد هي خلافية"! يغلق أحمد الكتاب بقوة ويذهب إلى سبيله الذي لا نعلمه! كان ذلك مشهدا دراميا يحاكي واقع الخطاب الديني الذي يقع في مغالطة شنيعة وهي تعمُد إخفاء الرأي الشرعي الآخر، وعدم إظهاره لعامة الناس، لأن الناس "عوام" لا تعي الأمور. والعوام لفظ دارج عند كثير من الدعاة وشيوخهم، ويراد به كل من ليس له دراية في الفقه الشرعي. هذا النعت فيه ما فيه من الازدراء والدونية، ولطالما قرأت وسمعت، أيام دراستي الشرعية، عبارة دارجة يعرفها ويرددها طلاب العلم الشرعي وهي "العوام هوام"، ومنهم من يتفنن في سبك العبارة إمعانا في تجهيل الناس وتسفيههم فيقول: "العوام هوام يأتون بالطوام" أو "العوام هوام والهوام كلها طوام".
في المعاجم اللغوية، الهوام جمع هامة وهي الدواب وحشرات الأرض الضارة. فأين خطاب هؤلاء من خطاب الله في كتابه العظيم وتكريمه سبحانه لبني البشر {ولقد كرمنا بني آدم}.
يقول صاحب كتاب حدائق ذات بهجة صفحة201‪:‬ "العوام الهوام الطوام، يغلون الأسعار… ويجلسون على الطرقات يسألون عن الأخبار والأمطار، أتباع كل ناعق، ذباب طمع، إن أقبلت عليك الدنيا طلبوك حتى مَلّوك… لا تثق بمدحهم فهم الدهماء والغوغاء البلداء الأغبياء السفهاء"!
والحق أن هؤلاء "العوام" الذين يتنقصهم أولئك، هم الذين جعلوا من القوم مشاهير، لولاهم لما كان أولئك نجوما في القنوات الفضائية وعلى منصات التواصل الاجتماعي يتابعهم ملايين "العوام". "العوام" هم الذين جعلوا لتلك الشريحة شأنا حين ثنوا الركب في حلقات دروس البعض وتتبعوا محاضراتهم "التحريضية" التي صنعت التطرف والمغالاة. "العوام" هم الذين دفعوا أموالهم الطائلة لاقتناء أشرطة أولئك "الكاسيتية"، واشتروا إصداراتهم وكتبهم حتى أصبح "القوم" من أثرياء المجتمع وخواصه.
نقلا عن الوطن

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up