رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالحميد العمري
عبدالحميد العمري

الاقتصاد والميزانية .. تبادل الأدوار

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

يمكن باختصار شديد وصف ما يجري في المرحلة الراهنة من تحولات جذرية بالنسبة للاقتصاد الوطني على المستويات كافة؛ بأنه عملية ضخمة لتبادل الأدوار بين كل من الاقتصاد الوطني والميزانية الحكومية، فخلال العقود الطويلة الماضية، لعب الإنفاق الحكومي الدور الأكبر والأهم في إمداد الاقتصاد الوطني بأغلب -إن لم يكن كل- أسباب نموه، والإنفاق الحكومي بدوره استند ظهره بدرجة كبيرة جدا إلى عوائد النفط كمصدر وحيد وثقيل الوزن (الإدمان النفطي المفرط)، كان في أعوام خير معين له، وفي أعوام أخرى كان النفط يخذله حينما تتراجع أسعاره عالميا، وسرعان ما ينتقل ذلك إلى الاقتصاد الوطني بعديد من الآثار السلبية.
مضت عقود طويلة من الاعتماد على النفط، وظل يزداد عقدا بعد عقد. وجدت السياسات الاقتصادية نفسها أمام تزايد حجم الاقتصاد وتحدياته التي يواجهها، وتعاظم المتطلبات الإنمائية للمجتمع، أصبحت أقل شأنا من أن تنجح حتى في مجاراة أدنى التحديات أو المتطلبات، بل تحول بعضها إلى عقبة كأداء في طريق استثمار الفرص والمبادرات الواعدة لدى الشرائح الشابة في المجتمع.
نعم؛ تمكنت العوائد المرتفعة للنفط من "ترقيع" تشققات عديدة، لكن سرعان ما ظهرت حقيقتها على الرغم من ارتفاع أسعاره، لعل من أبرز تشققاته، البطالة، أزمة الإسكان، التباين الكبير في الدخل بين الأفراد، وأمام مثل هذه الحقائق، لك أن تتخيل كيف سيكون عليه الحال تحت ضغوط انخفاض أسعار النفط كما شهدناه جميعا في أعوام مضت، وكما نشهده اليوم.
كانت أسعار النفط ترتفع (الإيرادات النفطية)، فترتفع الإيرادات إجمالا في أجواء احتفالية، سرعان ما ارتفعت على أثرها بنود الإنفاق الجاري والرأسمالي على حد سواء، إلا أن الإنفاق الرأسمالي الذي تجاوز سقف 2.2 تريليون ريال خلال العقد الماضي، وعدم حيازته الكفاءة اللازمة الدافعة لإنجاز مشاريعه (28.2 ألف مشروع حكومي) على الوجه المطلوب وفي الوقت المحدد، أدى إلى تأخير تنفيذ بعض المشاريع، نتيجة ضعف الرقابة والمتابعة والمحاسبة، تبين وفقا لبيان الميزانية الأخير تجاوز قيمة التعثر فيها سقف تريليون ريال، لكنه عدا أنه تسبب في اتساع (الفجوة التنموية، تلبية احتياجات المجتمع المتنامية مقابل المقررات المالية لتنفيذ مشاريعها)، أفضى لاحقا نتيجة استدامة عديد من التشوهات في مختلف أنحاء الاقتصاد الوطني (ضيق فرص الاستثمار، الاحتكار، الفساد الإداري والمالي، سيطرة العمالة الوافدة على النشاطات والأسواق المحلية تحت مظلة التستر التجاري، ضعف الرقابة والمساءلة)، إلى أن يتحول ذلك الإنفاق إلى واحد من أكبر مغذيات تلك التشوهات الاقتصادية لدينا، وتسبب في تفاقم تحديات البطالة وزيادة الاستقدام، إضافة إلى زيادة تعقيدات حلول كثير من الجوانب التنموية الأخرى كأزمة الإسكان، ومحدودية الدخل، وزيادة حجم المديونيات على كثير من الأفراد العاملين، وارتفاع معدلات التضخم بجميع أشكاله على كاهل المجتمع (تكلفة المعيشة)، وعلى كاهل منشآت القطاع الخاص (تكلفة الإنتاج والتشغيل).
أمام استئثار شريحة من الأفراد بالعوائد الأكبر من تلك الوفورات المالية الهائلة، انعكس على زيادة ثرواتها بصورة لم يسبق لها مثيل، وعلى ارتفاع أثمان مخزوناتها من الأراضي والعقارات ومختلف الأصول، في المقابل كانت الأطراف الأكثر حرمانا من تلك الوفورات ممثلة في الاقتصاد الوطني (تأخر تطوير البنى التحتية)، والميزانية الحكومية (الإيرادات غير النفطية)، وأغلب أفراد المجتمع (الفجوة التنموية، تضخم تكلفة المعيشة)، والقطاع الخاص (ارتفاع تكلفة الإنتاج).
وكان من الضرورة القصوى العمل فورا وسريعا على إيقاف هذا الانجراف في اتجاه بالغ الخطورة وأن عليه خوض طريق آخر مهما بلغت مشقته في الأجلين القصير والمتوسط، كانت باكورته "رؤية 2030"، أخذا بالاعتبار ما تجري عليه النقاشات الجادة والساخنة الآن، ومحاولات تقريب نقاط الاختلاف الراهنة حول الأدوات والسبل الهادفة إلى إنجاح عملية تبادل الأدوار بين كل من الاقتصاد الوطني والميزانية الحكومية، وتحديدا حول بند (الإيرادات غير النفطية)، وهو ما سبق أن طرحته في المقالات الأخيرة هنا بصحيفة "الاقتصادية".
إلا أنه للوصول لكل تلك الغايات والطموحات المشروعة؛ فلا شك أن اقتصادنا بحاجة أكبر إلى إرساء النزاهة والتنافسية ومحاربة كل من الفساد والاحتكار بجميع أشكالهما، وتوفير الدعم للشرائح الفتية من السكان، وتحفيز الثروات والموارد التي أنعم الله بها على بلادنا للاستثمار والإنتاج والتشغيل، عوضا عن تكديسها في مجرد أراض بيضاء كمخزنات قيمة، وعوضا عن مجرد تدويرها في مضاربات بحتة، لا أثر لكل منهما سوى إلحاق أشد الأضرار بالتنمية والاقتصاد والمجتمع على حد سواء، في الوقت الذي تتسبب فيه من حرمان اقتصادنا ومجتمعنا من عوائد قيمها المضافة، وحجب آثارها الإيجابية عن التحقق على المستويات التنموية.
لعل من أهم تلك الآثار التي غيبتها أشكال الاحتكار والمضاربات، وخلفهما الفساد والتستر، حرمان الاقتصاد من حسن استغلال الفرص الاستثمارية الواعدة والتنافسية، والتسبب في إضعاف قدرته على إيجاد فرص العمل الكريمة والملائمة للشباب والفتيات، والتسبب أيضا في إبقاء الاقتصاد الوطني رهينا للاعتماد المفرط على النفط، بمعنى إبقائه اقتصادا ريعيا أكثر وحرمانه من التطور والتحوّل إلى اقتصاد أكثر اعتمادا على قاعدة إنتاجية متنوعة ذات كفاءة أفضل، الذي يعني أيضا استمرار حياة التشوهات التنموية الناتجة من وجود مثل هذا الشكل من أشكال الاقتصاد الريعي؛ كالتباين الكبير في مستويات الدخل بين طبقات المجتمع وشرائحه، وضعف إيجاد الوظائف وفرص العمل، إضافة إلى منع الاقتصاد والمجتمع بدرجة أكبر من الاستقلالية والتنوع والنمو المستدام والشامل. وللحديث بقية.. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الإقتصادية

arrow up