رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالحميد العمري
عبدالحميد العمري

الطرق البديلة لمواجهة تحديات سوق العمل

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

استكمالا للمقال الأخير "البطالة وسوق العمل"، تؤكد وقائع التحديات التي تحفل بها سوق العمل المحلية، أن وزارة العمل وفريق المؤسسات التابع لها أصبحا أكثر صراعا مع نتائج وإفرازات برامج التوطين التي استحدثتها منذ مطلع 2011، عوضا عن مواجهة الأسباب الحقيقية لأزمة البطالة وشح توظيف العمالة الوطنية، والعمل على إيجاد فرص العمل الكريمة والمناسبة للباحثين عن التوظيف.
يكمن أهم سبب لعدم قدرة برامج التوطين (على رأسها نطاقات)؛ أنه انطلق لمعالجة تحديات سوق العمل من نقطة الإبقاء على التشوهات الكامنة في أغلب أجزائها، بل لقد اعترف بها بالدرجة الكاملة، وغفل عن أنها في الأصل نشأت من تشوهات أكبر جثمت على كاهل الاقتصاد الكلي! وتعاملت برامج التوطين تلك معها على أنها (مسلمة) من مسلمات الاقتصاد والسوق على حد سواء. لهذا كان طبيعيا أن تذبل أوراقه وألوانه حتى قبل موسم حصاد ثمارها، ليصل مبكرا إلى النتيجة الوخيمة التي عبر عنها بوضوح تام تقرير وزارة الاقتصاد والتخطيط 2014! مؤكدا للجميع أن العودة إلى المربع الأول أصبحت واجبة ولازمة؛ والمربع الأول هو ما تمت الإشارة إليه طوال الأعوام الخمسة الماضية؛ أن معالجة تشوهات سوق العمل تبدأ في خطوة مبكرة من معالجة تشوهات الاقتصاد الكلي، ومن ثم ستفتح الآفاق الرحبة الواسعة أمام سوق العمل، ليتحول على النقيض تماما من التشخيص الذي وضعه تقرير وزارة الاقتصاد والتخطيط لسوق العمل (القطاع الخاص)، بعدم كفاءته لأن يكون حلا لامتصاص مئات الآلاف من العاطلين، في الوقت الذي هو على وضعه الراهن ليس صالحا إلا لإيجاد وظائف غير إنتاجية، ولهذا السبب كان جاذبا بشدة لاستقدام الملايين من العمالة الوافدة المتدنية المهارات والتعليم، وفي الوقت ذاته عاجزا تماما عن توظيف مخرجات التعليم العالي والعام والفني من المواطنين!
إن على وزارة العمل تبني رؤية أخرى تجاه تحديات سوق العمل المحلية، تستوجب اتسامها بما يلي؛ أولا: أن تكون أكثر شمولية تجاه الاقتصاد الوطني بصورة عامة، وليس فقط تجاه سوق العمل، وهو ما سيحدث فارقا كبيرا على مستوى السياسات والإجراءات التي ستنتهجها الوزارة وبقية الأجهزة الحكومية المعنية إذا تطلب الأمر، تجاه السوق والمنشآت والأفراد كافة ذوي العلاقة، وكذلك الأداء والنتائج لاحقا.
فما حدث خلال الفترة الماضية؛ تمحور حول تعامل وزارة العمل منفردة مع تشوهات سوق العمل المحلية، دون النظر أو الأخذ في عين الاعتبار "المصادر الرئيسة" لتلك التشوهات التي تسربت إلى سوق العمل، وتغلغلت في مختلف أرجائه، ويكفي القول هنا إنه مهما بذلته وزارة العمل أو غيرها للقضاء على كل إفرازات التشوهات الرئيسة، دون المساس بأي من تلك المصادر الرئيسة للإفرازات، فإنك ستظل تدور في حلقة مفرغة لزمن طويل جدا، وما قد تعتقد أنه منجز أو تقدم ستكشف لاحقا أنه كان شعورا مزيفا بالكامل، بل إن ذلك الشعور المزيف بالإنجاز قد تسبب في توريطك بالمضي قدما في عملك الهامشي، والاستمرار على طريقه الخاطئ، وهو ما يحقق قبل أي اعتبار آخر المصلحة والغرض اللازمين لديمومة التشوهات الرئيسة.
ثانيا: تقتضي ترجمة السمة الأولى أعلاه؛ أن تتشكل منظومة عمل واسعة تضم الأجهزة الحكومية المعنية (في مقدمتها وزارة التجارة والصناعة والهيئة العامة للاستثمار)، ومنشآت القطاع الخاص ممثلة في الغرف التجارية والصناعية، وهو التوجه الصائب الذي عبر عنه وزير العمل في أكثر من مقام، بأن سياسات وبرامج التوطين ستنطلق مستقبلا من رؤى أكثر شمولية، وأنه والعاملين معه بوزارته على قدر كاف من الشجاعة للاعتراف بأية أخطاء قد تكون حدثت سابقا، والعدول عنها وتجاوزها بثقة أكبر، وجرأة أقوى لمواجهة أية تحديات قائمة بسوق العمل.
سيكون مفيدا جدا أن تبدأ نظرة منظومة العمل الحكومية والأهلية للاقتصاد الوطني وسوق العمل، من منظور أعلى معتمدا على التبويب الرئيس للاقتصاد الوطني حسب أنشطته الثلاثة الرئيسة (1) نشـاط الزراعة (بيانات 2014: مساهمته في الاقتصاد 1.8 في المائة، حصته من العمالة الوطنية 1.1 في المائة، معدل التوطين 2.6 في المائة)، ويشـمل: الزراعـة والصيد والغابات وصيد الأســمـاك. (2) نشـاط الصـناعـة (بيانات 2014: مساهمته في الاقتصاد 58.2 في المائة، حصته من العمالة الوطنية 52.6 في المائة، معدل التوطين 13.6 في المائة)، ويشـمل: التـعـدين واســتـغـلال المحـاجـر، والصنــاعــات التحويلـية، والـكـــهربـاء والـغــاز، والمـياه، والتشـيـيـد والبـناء. (3) نشاط الخدمات (بيانات 2014: مساهمته في الاقتصاد 40.1 في المائة، حصته من العمالة الوطنية 46.3 في المائة، معدل التوطين 21.1 في المائة)، ويشمل: تجارة الجملة والمطاعم والفنادق، والنقل والاتصالات والتخزين، وخدمات المال والتأمين والعقارات وخدمات الأعمال، وخدمات جماعية وشخصية، ومنتجي الخدمات الحكومية. ويستمر في التدرج هبوطا حسب ذلك التبويب حتى يصل إلى أدنى مستوى تحليلي، مع الأخذ في الاعتبار الأنشطة الجزئية المكونة لتلك الأنشطة الثلاثة الرئيسة.
ينبغي على منظومة العمل أعلاه العمل بصورة متكاملة على العمل على توسعة وتعزيز نشاط الخدمات، عبر توسعة وزيادة الاستثمارات في مختلف أنشطته الفرعية، والعمل كذلك على فتح المنافسة في رحابه الواسعة، ذلك أن هذا النشاط يعد من أكثر الأنشطة الاقتصادية الحاضنة لأشكال الاحتكار على العكس من المنافسة، الذي أدى بدوره إلى بقاء نسبة مساهمته في الاقتصاد الوطني دون 40.1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. كل ذلك بدوره سيسهم في زيادة وإيجاد المزيد من آلاف الفرص الوظيفية الملائمة والكريمة للمواطنين والمواطنات، ويكفي أن تركز هنا على بعض الأنشطة الفرعية لنشاط الخدمات كخدمات المال والتأمين (مصارف تجارية، شركات تأمين)، اللذين يعاني كلٌ منهما تشوهات هيكلية تسبق توطين الوظائف من عدمه! فالمصارف التجارية نشاط يعاني منذ فترة طويلة جدا من ارتفاع درجة تركزه الشديدة (الاحتكار)، ورغم ارتفاع معدل ربحه لرأس المال لدرجة وضعته في أعلى سلم مؤشرات الربحية على مستوى القطاعات المالية عالميا (كان أحد أسباب ارتفاع الربحية سيطرة أشكال الاحتكار، وضعف المنافسة)، أقول على الرغم من كل ما تقدم من أرباح مرتفعة، إلا أن مساهمة هذا النشاط في القيمة المضافة للاقتصاد لا تكاد تصل إلى 2.5-3.0 في المائة، على الرغم من تجاوز موجوداته سقف الـ 2.0 تريليون ريال، ولا يتجاوز عدد العمالة فيه 47.6 ألف عامل سعودي وغير سعودي (0.47 في المائة من إجمالي عدد العمالة في القطاع الخاص).
تتأكد وفقا لما تقدم أهمية رفع مساهمة نشاط الخدمات في الاقتصاد (المتوسط الأمثل بالنسبة للاقتصادات المشابهة تراوح بين 75-85 في المائة)، وللعلم فإن ارتفاع نسبة نشاط الخدمات في الاقتصاد وديمومة ارتفاع تلك النسبة، تبين للمختصين والمراقبين مدى قرب الاقتصاد من التحول لاقتصاد المعرفة من عدمه، واستقرارنا حتى نهاية العام الماضي عند 40.1 في المائة تدلل على ابتعادنا كثيرا حتى الآن عن تحقق هذا التحول! إلا أن الأهم في الوقت الراهن بالنسبة لوزارة العمل، أنْ تكتشف المدخل الأسلم ونقطة البداية الصحيحة نحو تحقيق الهدفين التنمويين، بالتكامل في الجهود مع بقية الأجهزة المعنية: (1) تحسين ورفع كفاءة الأداء الاقتصادي، ورفع درجة التنوع الإنتاجي المحلي. (2) إيجاد المزيد من الوظائف اللائقة والمنتجة لتلبية الطلبات المتنامية عليها من قبل خريجي التعليم العام والفني والعالي. وللحديث تتمة. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up