رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالحميد العمري
عبدالحميد العمري

الفجوة التنموية .. والتريليون ريال

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

في الوقت الذي تعتبر فيه لغة الأرقام بالنسبة للبعض أوضح وأسهل من غيرها، لا شك أنها أيضا قد تكون أكثر تعقيدا على البعض الآخر، حتى بمن فيهم من أهل الاختصاص المالي والاقتصادي! ولست هنا بصدد شرح أسباب هذا التباين من حيث الفهم والمعرفة بين الفريقين، بقدر ما أن الأهم هنا هو فهم الأمور على وضعها الحقيقي دون لبس.
كانت الحكومة قد اعتمدت خلال الفترة 2005-2015 نحو 28.2 ألف مشروع حكومي، بتكلفة إجمالية تجاوزت 2.23 تريليون ريال، كنت وغيري من الكتاب طوال العقد الماضي، نلاحق تنفيذ وترجمة تلك المشاريع التنموية على أرض الواقع، ندقق ونقارن بين ما أنجز وما لم ينجز بناء على الأرقام الرسمية الصادرة سنويا عن كل جهة حكومية حسب مسؤوليتها، انتهت جميعها ووفقا للبيانات الرسمية الموثقة، إلى أن المنجز من تلك المشاريع على أرض الواقع مقارنة بالمعتمد، تأرجح بين 24 في المائة كأعلى نسبة إنجاز، ونحو 13 في المائة كأدنى نسبة إنجاز، وظل هذا الملف التنموي البالغ الأهمية محل شد وجذب بين الأجهزة الحكومية ومسؤوليها من جهة، ومن جهة أخرى الرأي العام على اختلاف مشاربه، فريق حكومي يؤكد أنه أنجز كثيرا، وفريق مقابل يؤكد أن الإنجاز لم يرتق إلا إلى أدنى من "ربع" المشاريع المستهدفة!
من هنا نشأ ما أسميته آنذاك "بالفجوة التنموية"، التي تعني تحديدا الفارق بين متطلبات التنمية الفعلية للاقتصاد والمجتمع من جانب، ومن جانب آخر الرصيد المنجز فعليا من مشاريع التنمية المعلنة، مثال على ذلك للإيضاح فقط؛ أن يبلغ الاحتياج الفعلي للمجتمع في المجال الصحي نحو 200 ألف سرير، لكن في الواقع نجد أن المتوافر 150 ألف سرير، يترجم الفرق هنا (50 ألف سرير) على أنه فجوة تنموية! وقس على ذلك في بقية المجالات الأخرى كالتعليم والنقل والمواصلات والخدمات والبنى التحتية، مؤكدا مرة أخرى أن الأرقام الأخيرة المشار إليها أعلاه؛ هي مجرد مثال رقمي لأجل التوضيح فقط.
أتى مصطلح أو مفهوم "الفجوة التنموية" للإجابة عن السؤال المحوري، الذي ظل حاضرا طوال العقد الأخير: لماذا لم ينعكس الإنفاق الحكومي الكبير على الاقتصاد والمجتمع بشكل ملموس؟ أو لماذا لم نشهد ترجمته على أرض الواقع؟ أسئلة عديدة ظلت حائرة لسنوات طويلة تبحث عن إجابة لكن دون جدوى، نتيجة له؛ استمر الاشتباك قائما بين الفريق التنفيذي الحكومي والرأي العام حتى نهاية العام الماضي، لتأتي كلمة الفصل من مصدرين مهمين جدا، الأول كان للأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في لقائه الشهير مع وكالة بلومبيرج، والثاني للوزير محمد آل الشيخ في حديثه المتزامن مع إعلان موازنة العام المالي الراهن، جاءت الخلاصة: أنه وجد خلال الفترة 2005-2015 نحو 7.2 ألف مشروع حكومي متعثر أو لم يتم إنجازه، قدرت تكلفتها بأعلى من 1.0 تريليون ريال! كان القرار المتخذ في خصوصها الإلغاء والشطب، والعمل في الوقت ذاته على تكثيف مراقبة ومتابعة المشاريع الجاري العمل على تنفيذها! وبنسب هذا المبلغ إلى إجمالي تكلفة المشاريع الحكومية أعلاه 2.23 تريليون ريال، ستجد أنك أمام نسبة تعثر تبلغ 44.8 في المائة!
ما تجب الإشارة إليه هنا؛ وهو من أهم المحاور الواجب فهمها بشكل واضح وجلي، من حيث شطب وإيقاف تلك المشاريع الحكومية، أن مستحقاتها كانت فقط مخططة للدفع مقابل تنفيذ تلك المشاريع، ولم تدفع كاملة كما ظن البعض إلى الأجهزة المعنية بالتنفيذ، ذلك أن مشاريع الحكومة وآليات الدفع تخضع لإجراءات ومراحل عديدة مسبقا، لا يمكن أن تخرج عنها أية جهة أو جهاز حكومي، بمعنى أن الإلغاء أو الشطب الذي تم هنا، كان منصبا على مشاريع خططت لتنفذيها الأجهزة الحكومية، تم تحديد حجمها وتكلفتها، ومن ثم قامت كل جهة بتقديمها إلى وزارة المالية سنويا، لاعتماد المبالغ الخاصة بها ضمن الميزانية الحكومية. كان من أهم النقاط التي وقفت وراء قرار شطبها، أن عديدا من تلك الجهات الحكومية، كان يخطط ويستهدف تنفيذ مشاريع جديدة سنويا، في الوقت ذاته الذي تأخرت أو لم تنفذ مشاريعها التنموية القائمة القديمة، التي سبق أن أعلنت عنها وخططت لها في سنوات سابقة!
طبعا لو تم تنفيذ تلك المشاريع التنموية، وفق الجدول الزمني ومراحل التنفيذ، كما خطط له من قبل الأجهزة والجهات الحكومية، لكان الأمر محمودا دون شك، ولما وجدنا اتساعا متسارعا لـ "الفجوة التنموية" وهو الاعتبار الأهم هنا، ولما نشأ الفساد المالي والإداري على صورته الخطيرة التي نحاربها جميعا في الوقت الراهن. لهذا كان القرار الأصوب في مواجهة هذه المعضلة الكأداء؛ أن يتم إلغاؤها والعمل من جديد وفق مقتضيات ومحددات المرحلة الراهنة اقتصاديا وماليا، ما يعني بالضرورة وهي النقطة الأخرى الواجب الإشارة إليها، أن تلك المشاريع التنموية لم يتم التخلي عن تنفيذها، والتسبب مرة أخرى في تفاقم "الفجوة التنموية"، بل ستخضع لآليات عمل جديدة للتنفيذ، سيترتب عليها دون أدنى شك تغييرات وتعديلات تأخذ بعين الاعتبار، تغير احتياجات الاقتصاد والمجتمع وفق المرحلة الراهنة، فما كان مطلوبا تنفيذه قبل عدة سنوات ماضية وفقا لتلك الاحتياجات، لا شك أنه سيتغير نتيجة تغير تلك الاحتياجات، التي في الغالب أنها أصبحت أكبر، والأخذ في الاعتبار التكلفة الآنية للتنفيذ، إضافة إلى مصادر التمويل، وهما العاملان اللذان اختلفا تماما عما كان قائما إبان توافر الإيرادات الحكومية الهائلة والسيولة الكافية. وللحديث بقية قادمة بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق.
نقلا عن "الإقتصادية"

arrow up