رئيس التحرير : مشعل العريفي
 خالد السيف
خالد السيف

هل لـ«الفساد» من رائحة..؟!

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

هل لـ«الفساد» من رائحة..؟! أو دعوني ألفظُها على نحوٍ آخر: هل شمَمتُمْ ما أعنيه؟! لنتفقْ أولاً أنّ «حاسّة الشّم» هي مِن آخر المعاقلِ التي يُمكنُ أن تُسفرَ لنا عن حجمِ «الفساد» وانتشار شيوعه ذلك أن السمعَ والبصر قد يُضرب عليهما فلا نكاد نسمعُ شيئاً ولا نبصره.. إذ بسببٍ من نفوذ «المُفسد» مُتجاوز الحدود/ وعابر القارات أو بما توافرَ عليه من مكرٍ و «دهاء» نكون – نحن – قد غُيّبنا عن أن نرى «إفساده» أو أن نَسمعَ عن «إفساده» شيئاً ولو عن طريق «النّم» وذلك عائدٌ للخوفِ الذي من شأنه أن يتلبّسَ الفرائص فترتعد وجلاً! إذ ما من أحدٍ فينا قد يجرؤ على نقلِ شيء من «فساده» ولو بالإشارة (صُمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون).!
لعلنا إذن قد اتفقنا على أنّ «الفسادَ» حينَ لا يُسمع وساعةَ لا يُرى فإنّه بالضرورةِ سيتضخّم – ويخيس – تعفناً فتنبعث منه «رائحةٌ» نتنةٌ تمتلئ بها كلّ الفراغاتِ التي قد تركتْها حاستا السمع والإبصار شاغرةً! لتأتي تالياً حاسةُ «الشّم» فتنهضُ بعبء الكشف عن مسلسل «الفساد» بحلقةٍ أولى تُسجّل لصالح «الشّم» وبهذا يُمكننا القول بـ: إنّ «الفساد» يَسعهُ أن يُدرج من قبيل «المعاني» التي إن تعذّر النظر إليها/ وفيها أو صعُب علينا تحسّسها باليد «لمساً» أو بات من الشّاق الإنصات لجلبتِها فإنّ في «الخشم» يكون الإنقاذ لما يُمكن إنقاذه من تعرية وجوه «الفساد» بحسبان أنّ رائحته تكون إذ ذاك قد ملأت علينا كلّ الأماكن فما عادَ فينا من أحدٍ (يشتاقُ) لها! مع أنّها لم تزل بعْدُ تُذكرنا بـ«الحرامية»!! فـ»الفساد» على هذا النحو يُشبه «الحقيقة» من كّل جانبٍ إذ إنّ لكليهما جِرماً ولوناً وطعماً وصوتاً ورائحة وعليه فإن من يُنكرُ «الفساد» كمن يُنكر «الشمس» في رابعة النهار!! – على طاري الشمس – هل أنّ للشمس رائحة..؟!
كثيرون هم أولئك الذين ينتعشون على رائحة «الفساد» وأكثر منهم أولئك الذين «يموتون» لو أنهم افتقدوا تلك الرائحة ما يعني أنّهم رهنوا «حياتهم» على (أوكسجين) الفساد وبهذا الأخير عمروا «دنياهم» وقوّضوا «آخرتهم» هدماً وكثيرٌ منهم من الذين يصلّون ويصومون وإلى مكة يحجّون! أرأيتم كم كان أجدادنا العرب محقّين إذ ما فتئوا يرفعون من شأنِ «الأنف/ الخشم» على بقية الأعضاء إذ يتقدّمها في المحل والشرف وما ثَمَّ سجودٌ صحيحٌ ما لم يكن «الأنف» ثاني السبعة الأعضاء. يقول الجاحظ «والأنفُ هو النّخوة وموضع التّجبر» وما زلنا على إثرهم نقتفي الخطو ذلك أنّه ما من أحدٍ فينا إلا وقد قال «على خشمي» لمن أراد أن يُكرمه بقضاء حاجته.. وبنحوٍ من هذه المعاني مجتمعةً مدحَ الحطيئةُ بني «أنف الناقة» بقوله: قومٌ هم الأنفُ والأذناب غيرهم فمَن يسوّي بأنفِ الناقةِ الذنبا لنعود لصلب ما نحن فيه وبشيءٍ من إيجاز تأكيداً على: * أن ّأخطر من جرائم «الفساد» الافتقاد لمناعته، بحيث أصبح «جسمُ» المجتمعِ متصالحاً مع «الفساد» إذ لا يرى فيه شرّا فكان من شأن استفحاله أن أتى مكتسحاً خيرات «الوطن» طالما أنّ (المجتمع/ المريض بفقدان المناعة) لا يشمُّ – هو الآخر – الرائحة التي أفسدت البيئة بعفنها.. على الرّغم من أنّ شدّة فوحان انبعاثها قد طالَ مَن هم بالجوار فتأذّوا منها كثيراً..!
* هل ينبغي لنا أن ننتظر – زمناً طويلاً – حتى يأتي «الفساد» على كلّ أخضرنا فيجعله غثاء أحوى لكي نؤمن بأنّ حاسة «الشم» تكفي دليلاً على أنّ ثمة فساداً هنا/ أو هناك؟! إنّ لـ «الأنف» قدرةً مذهلةً على كشفِ مقدمات الفساد قبل استشرائه.. ما يعني أنّه من بعد الآن لا ينبغي التهاون بشأن «الأنف» وعبقريته في الكشف عن الروائح النتنة تلك التي أوشكت أن تنبعث من كلّ مكان..!
* لئن سألتني: ما هي الوطنيّة؟ قلت لك: إنّ الوطنيّة هي البكاء بحرقةٍ – وأنت وحدك – حين تشمّ رائحة فسادٍ قد تأذّى منها «أنفُك» سواءً انبعثت تلك الرئحة من هذا أو من ذاك على حدٍّ سواء!!
* الزكام الذي يأتي بسببٍ من رائحة «الفساد» عصيٌّ على كلّ أنواع «مضادات الهستامين» ذلك أنّ زكام/ رشح «الفساد» ليس فايروساً عارضاً بل هو التهاب فيروسي حاد يصيب جهاز «الحياة» لـ»الوطن» ويُشكّل موتاً سريرياً يقضي على كلّ مفاصل التنمية ويجعل من المستقبل كسحياً.. وليس بخافٍ أنّه مرض شديد العدو ينتقل للأصحاء بمجرد رذاذٍ جراء «عطسةٍ».
* عقب أن ينتهي أحدكم من قراءة ما كتبتُ سيقول: يا خالد لقد تجاوزنا انبعاث «الرائحة» بمراحل.. فأي شيءٍ جئت لتقوله يا رجل؟! بدوري أجيب: صدقت.. ولكن هي الذكرى التي تنفع «الوطنيّين» وسأستعين بـ«نيتشة» ليجيبك بالإنابة عني حيث قال (كفى.. كفى لم أعد أتحمل. قليلاً من الهواء.. قليلاً من الهواء! فمختبر الأدوية هذا الذي يُصنع فيه المثل الأعلى يبدو أن رائحة الكذب التي تفوح منه أصبحت تزكم الأنف). كتاب «جنيالوجيا الأخلاق»
نقلا عن "الشرق"

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up