رئيس التحرير : مشعل العريفي
 د. زهير الحارثي
د. زهير الحارثي

إشكالية الحلم والواقع... الخروج من النفق المظلم!

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

تساؤلات تتبادر للذهن حول هذه الأجواء الملبدة في بعض دولنا العربية، كليبيا وتونس والعراق والسودان والأردن، وكأنها مخاض لا يلبث أن نخرج منه بتأسيس جديد لمرحلة جديدة هي في طور التشكل والتجاذب. لسنا من أصحاب التفاؤل المفرط أو التشاؤم المحبط؛ فقراءة ما يحدث يشير إلى أننا بصدد مسار طويل. نتذكر تداعيات الربيع العربي دفعت البعض آنذاك إلى تفاؤل مفرط بالتحول إلى الديمقراطية وهي بطبيعة الحال لم تكن رؤية دقيقة، حيث لم يسندها الواقع السياسي والاجتماعي، المسألة لم تتعلق فقط بقضية إسقاط أنظمة، بل إن المعيار (أو هكذا يفترض أن يكون) بما تم إنجازه من عملية التغيير. بعض الدول العربية تشهد أوضاعاً غير مستقرة وحراكاً ومطالب شعبية؛ ما يعني أن تلك الشعوب عانت كثيراً ووصل بها الحال إلى ما نراه الآن، بدليل أن بعض الأنظمة التي تلاحقت نجحت في تعطيل عقل الإنسان العربي ليصبح أسيراً للشعارات وخادماً لها من دون وعي أو إرادة. الواقع الراهن، وتراكماته، تقودنا إلى المشهد الذي قد تغير فعلاً، بدليل الحراك والتساؤلات والمطالب المطروحة. السياسة هي فن الممكن، وبالتالي الدولة الراشدة (البراغماتية)، هي التي تتكيف مع المتغير، فتكون متفاعلة بدون تماهٍ مع هذا أو انعزال عن ذاك، وتتسلح بالعقلانية ليمكن لها التغلب على الصعاب وإلا أصبحت كائناً جامداً غارقاً في الضياع. الخشية تأتي من بعض الأصوات التي لا تنفك تندفع بعواطفها سلباً أم إيجاباً. والبعض منها قد يكيل الإطراء لهذه الدولة أو تلك لمجرد قيامها بإجراءات قانونية هامشية وليس إصلاحات جذرية، في حين أن البعض الآخر قد يذم ذلك التوجه، منطلقاً من قاعدة الرفض على الدوام لأي خطوة حكومية من دون التعامل مع المسألة بشكل موضوعي وواقعي، وهذه قضية شائكة متجذرة في بعض العقليات العربية التي لا يمكنها الانسلاخ من مواقفها الشخصانية. وجود مظاهر بناء وتحديث وتنمية اقتصادية في بعض الدول مسألة محفزة ومشجعة، ولكن لا بد يرافقها أيضاً نقلة مشابهة لها فيما يتعلق بالحداثة الفكرية والثقافية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية، لكي تكتمل الصورة الحضارية. المعضلة أيضاً هي في الأزمات التي تواجهها بعض الدول العربية كالفقر والفساد وقلة الموارد والإمكانات والأمية والبطالة والطائفية وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، إضافة إلى الافتقار لعقد اجتماعي بدساتير تحقق تطلعات الشعوب. من الطبيعي أن تكون هناك قرارات صعبة، وهنا تبرز أهمية المشاركة السياسية؛ كون النضج الديمقراطي يأتي تدريجياً مع الممارسة الديمقراطية، ومع ذلك لن تجدي نفعاً الحكومات التي تفشل في سياساتها من إلقاء اللائمة على مشجب المؤامرة، ناهيك عن الدولة الريعية التي لم تعد منتجة في ظل عالم بمفاهيم جديدة. وصول العرب للعالمية أو دخولهم ميدان التنافسية عملية شاقة، ويتطلب قراءة عميقة وجهداً نوعياً ومعرفة دقيقة لمقومات الداخل وإمكانات الخارج؛ فالهدف ليس الشعاراتية بقدر ما يعني وجود وحضور ومنافسة ومستقبل أجيال. ومع ذلك، فالمراقب لتعاطي بعض الدول العربية التي تعاني هذه الفترة من اضطرابات داخلية شعبية كانت أو برلمانية لم تستطع الانسلاخ من مفاهيم الآيديولوجيا والطائفية، علاوة على الانتهازية والفساد. ثمة عقليات في عالمنا العربي طافحة بالنرجسية وتضخم الأنا وتغلب مصالح عشيرتها أو حزبها على مصالح الوطن الأم، وتنفرد في سلوكها المرفوض ولا تؤمن بالحوار بدليل تمسكها بقناعاتها. ولعمري تلك تراكمات لم تلبث أن أخذت موقعها الراسخ في القاع السوسيولوجي للعقلية العربية. بات معلوماً أن ثمة تحدّيات تواجه تلك الدول وحالة من الترقب تعيشها شعوبها تتمثل في انتظار الخروج من هذا النفق المظلم عبر ترسيخ المواطنة وإخماد الطائفية. رفض القبول بحقيقة الأشياء يؤكد أن ثمة علة في جوف العقل العربي، وهي من شوائب موروثه الثقافي على الأرجح بدليل ما يدور على الخريطة العربية في وقتنا الحاضر. آلية التفكير الصحيحة والارتهان لمنطق سليم يتطلب معرفة تنويرية. مفكرون نادوا وما زالوا باستيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب من حيث المسافة التاريخية وكيفية استيعابها، فردم الهوة الشاسعة لا بد أن يكون متزامناً مع منظومة تنوير فكري وتطوير تقني وتنموي وإصلاح للخطاب الديني لتتسق مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الأوروبية التي استطاعت أن تصل لنموذجها الراهن بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك، في حين أن آخرين يرون المعضلة تتعلق في المقام الأول بنقد وتكوين وبنية العقل العربي على اعتبار أنه منتج لهذه الثقافة والتي هي بطبيعة الحال تهيمن على وعي المجتمع. دور صانعي القرار السياسي يكمن في قراءة معطيات الراهن وتداعياته واستباق المفاجآت بالاضطلاع بالمسؤولية عبر تقديم تسويات، وربما تنازلات إذا تطلب الأمر لقفل الباب أمام هواة التربص لدولهم. تحرير الإنسان العربي من كل القيود التي تكبله، والإصغاء لمطالب التيارات الوطنية وتوجهات الشارع يعزز فكرة المواطنة؛ كونها تتسامى فوق النزاعات الحزبية والفئوية وتلغي ما قد يشوب العلاقة ما بين الدولة والمجتمع من احتقان وعدم ثقة.
نقلاً عن الشرق الأوسط

arrow up