رئيس التحرير : مشعل العريفي
 فهد الأحمري
فهد الأحمري

تعويض فشل الأسرة

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

التقيته بعد عقدين من الزمن،‪‬ تغيرت أشياء كثيرة من ملامحه، سألته عما ألمّ به فقال لا شيء سوى البيت، ظننت خلافات عائلية وفقدان بعضهم، بادرني ليس أهل البيت، بل هو البيت ذلك المأوى الأصم، تعذبت في بنائه وكلفني الوقت والجهد والمال، وبعد عشر سنين عدت لأرممه وأدخل بعض التعديلات والتحسينات، فكلفني قريبا مما حصل في بنائه من وقت وجهد ومال. تجاذبنا الحديث في أمور أخرى لأسبر تحصيله الفكري والثقافي بعد هذه الحقبة الزمنية غير أني، وللأسف، وجدته كما هو دوغماتي الرأي ضحل الثقافة. قلت أراك بنفس الفكر والمستوى الثقافي، رد «الله لا يغير علينا». قلت ماذا تقرأ؟ قال توقفت، فلم أعد بحاجة للقراءة، وما تحصلت عليه معرفيا طوال العقود الخمسة كافيا، لا أرى هناك مزيدا في سطور الكتب! صاحبنا نموذج لأغلبية تعيش بيننا، تلتقيه بعد سنين طوال وهو بنفس العقلية والتفكير دون أن يتطور فكريا وثقافيا قيد أنملة إلا أن المنزل وترميمه وتطويره هو الشغل الشاغل. تجربة بناء المنزل مرهقة إلى حد كبير، وتجربة ترميمه لا تقل شأنا من حيث الخسائر المادية والجسدية والمعنوية والنفسية، فضلا عن ضياع الوقت وحالات التوتر وفقدان الأعصاب مع العمالة المنفذة وظهور أمور لم تكن في الحسبان لكنه في ختام المشروع، يعيش «المرمّم» راحة نفسية وطمأنينة لما آل إليه المنزل من إصلاحات كانت مصدر معاناة وقلق عايشها هو وأسرته. أجزم أن مجتمعنا أكثر المجتمعات على وجه الأرض يهتم بالمنازل من حيث البناء والترميم والتعديل والتحسين، إذ إن أعظم تنمية شهدتها بلادنا هي تنمية البناء والتشييد، وهي الأكثر إقبالا ونجاحا للاستثمار في مجال الصناعة والتجارة غير أننا للأسف ضمن أقل المجتمعات التي تهتم ببناء الفكر وترميمه وتعديله والعمل على إصلاحه -هذا إذا كان لنا وجود في القائمة-. وعلى فرض أن حصل أحدنا على مبلغ جيد من المال فإن التعليم والمعرفة والتطوير الفكري لشخصه ولأسرته لن يكون لها نصيب من اهتماماته البتة، بل إن أهم مشروعين يخطران بباله، في حال حصوله على المبلغ الوفير، هو السيارة والبيت من حيث الشراء والإصلاح. وهذا ما شاهدته حقيقة في أحد البرامج التلفزيونية حين يُعرض على المشاركين في الطرقات سؤال ماذا ستفعل حين تحصل على مبلغ مليون ريال. صحيح أن تأمين المنزل أمر مهم جدا للحياة والاستقرار، لكني أتحدث عن فئة، همها الأكبر نوعية السيارة وإصلاحات البيت ومحتوياته حتى درجت بعض الأسر على تغيير أثاث المنزل بشكل دوري، وقد لا تجد مكتبة أو كتاباً واحداً في هذا البيت الأنيق ينير جماجم سكانه. وإذا كان البيت والأسرة نعمة وسعادة فإن الفكر المستنير أعظم نعمة وأجل سعادة. الفكر المستنير يدفع صاحبه إلى المعالي حتى وإن خذله البيت والأسرة. ذُكر عن الفيلسوف العظيم سقراط أنه لم يكن مستقرا في بيته، فهو يخرج من الصباح الباكر ولا يعود إلا في المساء لابتلائه بزوجة «نكدية» سيئة المعشر، ولذا قيل إنه نصح أحد تلاميذه بالزواج فإن ظفر بامرأة طيبة فسيكون سعيدا، وإن كانت شريرة فسيكون فيلسوفا مثلي! إن البيت والأسرة يمكن تعويضهما، في حال فشل الفرد في تكوينها، بل ويمكن تعويض المجتمع بأسره كما فعل كثير ممن هاجر بفكره وعقله النير، وأصبح عظيما منتجا ذا شأن، بيد أنه لا يمكن تحقيق النجاح والتفوق والإنتاجية بفكر وعقل خاو مهما بلغ حجم الأسرة وسعة المنزل ووجاهة المجتمع. إن الدافع الرئيس لكل النجاحات والظواهر الإيجابية في حياة الناجحين والمنتجين هو عامل الفكر الذي يملكه أحدهم ويحترمه ويطوره ويعمل دوما على إعادة تأهيله وتخليصه من الرواسب المجتمعية. كل مجتمع لديه بنايات فكرية صلبة ومتجذرة، جدرانها منظومة قناعات وعادات وسنن، يولد الفرد فيها ويترعرع في تلك المنازل الفكرية التي شيدها الآباء والأجداد فمن المخاطرة القصوى والعقوق الأعظم أن تأتي بأفكار جديدة تهدم تلك الصروح والأبنية وتخرجهم منها، غير أن الذكاء العاطفي أوجد لنا إمكانية ترميم تلك البنايات الفكرية. الأفكار المحنطة تستوطن العقول نتيجة لمفاهيم وقناعات شيدتها العادات والتقاليد القبلية ورسختها الأدلجة الممنهجة وثبتها الخطاب الوعظي وسط نسق جمعي يقدس رموزه، فلا يجسر أن يراجع أفكارا تلقاها من كبراء الأسرة وسادات القبيلة وشيوخ الوعظ حتى وإن خالفوا النص المقدس. فمن المقدس هنا؟!
نقلا عن الوطن

arrow up