رئيس التحرير : مشعل العريفي
 أ.د.صالح بن سبعان
أ.د.صالح بن سبعان

جامعاتنا... ورؤية المملكة 2030 !

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

اعتماد مبدأ "الثقة" الهلامية، بدل الكفاءة ، أفقد المنصب الجامعي قيمته،، مند قديم الزمان والأمم لا تنهض بغير العلم. وقد كانت دور العلم دائماً هي مراكز الإشعاع الحضارية لكل الأمم، لذا كانت ولا تزال ـ محل الإجلال والإكبار بين الشعوب وقادتها. وقد أصبحت الجامعات في العصور الحديثة هي " الحواضن " لكل العقول النيرة، والمتطلعة إلى العلم والرقي، وهي الحواضن التي " تفرخ" لكل المجتمعات المعاصرة ، ليس العقول المستنيرة وحدها، بل وأصبحت هي " المطبخ " الذي تعد فيه إستراتيجيات الدول، والتي تصنع الخطط والبرامج العلمية لتحقيق أهداف وطموحات الدول والمجتمعات. مؤسسة الأعراف الراسخة وفى الدول، المتقدمة التي استطاعت أن تفرض سيطرتها على العالم، تعتبر الجامعات ومراكز الأبحاث هي القوة الأولى، في مكامن قوتها، لأنها هي التي تعد الخطط والبرامج ، بل وهي التي تضع أمام السلطة السياسية المنفذة كافة الخيارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وأمام رجل الدولة وأجهزته لإتخاذ القرار السليم المدروس. لذا كان لا بد وأن تخضع الجامعة " لنظامها" الداخلي ،وان تكون نموذجاً مثالياً لكل المؤسسات الأخرى في كل مجتمع ودولة إلتزاماً صارماً بالأسس والأطر والتقاليد والأعراف الجامعية العتيدة. والواقع أن الجامعة كمؤسسة تعليمية، أو كأعلى مراحل التعليم المؤسسي، إستطاعت وخلال تاريخها الطويل، أن ترسي لها أسساً ونظماً وأعرافاً وتقاليد موحدة في كل العالم. حتى صارت وفي كل المجتمعات هي الكيان المؤسسي الوحيد الذي لا يعتمد معياراً غير الكفاءة: سواءً في القبول، أو التنقل والتدرج بين المراحل، أو التدرج في سلكها الوظيفي الأكاديمي، وفي عملية الإحلال والإبدال. وتكاد تكون هي المؤسسة الوحيدة التي تتفوق حتى على المؤسسة العسكرية التي عرفت بصرامة قوانينها وتقاليدها في تطبيقها لمبدأ المعيارية الذى يقوم على الكفاءه. لإن المؤسسة العسكرية تحكمها معيارية " الأقدمية،وربما تتدخل إعتبارات سياسية أو غير سياسية، في عمليات الإحلال والإبدال والتدرج داخلها.. إلا أن طبيعة الجامعة وطبيعة وظيفتها في المجمع تفرض عليها هذه الصرامة في الالتزام بالأسس والمعاير والتقاليد والأعراف الضابطة لحركتها الداخلية، بحكم أنها دار علم، والعلم لا يعترف بغير التحصيل والكفاءة العليمة. انحراف عن الأسس **************** على ضوء هذه القاعدة دعنا نسأل : كيف هو حال جامعتنا..؟ من واقع معايشتي للجامعة حيث أعمل استاذاً، استطيع ان أجيب بثقة ولكن بأسف شديد أيضاً ـ إن واقعنا الجامعي أبعد ما يكون عن هذه الأسس والنظم التي لا يمكن بدونها أن نطلق على كيان جامعي هذه الصفة. بل على العكس هناك أنحراف عن هذه الأسس، وخروج فاضح على المبادىء الجامعية. ويتمثل هذا الإنحراف والخروج في عدة مظاهر، سأحاول جاهداً تلخيصها بشكلٍ سريع وغير حصري، لأن هذا يحتاج حيزاً ووقتاً أطول لا تسعهما مقالة خصص لها هذا الحيز المحدود. أولاً:- ماهي المعيارية التي يتم بها إختيار شغل المناصب داخل الجامعة ..؟ في كل الجامعات تظل الكفاءة ، وتراكم الخبرة، والمكانة الأكاديمية، والتي تقاس بكم ونوع البحوث والأوراق العلمية المقدمة، أي تتحدد بحجم ونوع المنجز الأكاديمي العلمي. إلا أن الأمر في جامعاتنا لا يلتزم في كل الأحوال هذه المعيارية الواضحة، إذ كثيراً ما يتم اختيار من لا تتوفر فيهم هذه الصفات، ولا يحملون بل لا يحلمون في المستقبل بتحقيق منجز علمي، بسبب شغلهم مناصب أقرب إلى المواقع الإدارية. ومعلوم لكل ذى عينين أننا نلحق ألضرر بالطالب أولاً وبالجامعة ثانياً وبالوطن كله ثالثاً. حين نقوم بتوظيف أو تعيين طالب علم لم تمضى سنوات قليلة على تخرجه أو نيله شهادة الدكتوراة في وظيفة اكبر من إمكانياته العلمية، وأكبر من رصيده في الخبرات العملية، لأننا نقتل فيه الرغبة في التحصيل العلمي، ونشغل وقته بأعباء ذات طابع إداري ، فنخسر أستاذاً محتملاً، ومشروع أستاذ دون أن نكسب إدارياً محنكاً، وبذلك يخسر الطالب وتخسر الجامعة. أما الدولة فتكون قد خسرت ملايين صرفتها عليه، لتأهيله عالماً أو استاذاً جامعياً منذ إعداده المبكر في مراحله التعليمية الأولى. المعيارية الغائبة ************* عوضاً عن معيار الكفاءة، وشروطه في غاية الوضوح والموضوعية، إذ أنها لا ترتبط بشخص المقيم وأهواؤه ، أو أهوائه الشخصية ، فهي تحمل بذور مقومات تقيمها سلباً أو إيجاباً في ذاتها منفصلةً عن شخص صاحبها. فالمنجز العلمي والعملي يكفي وحده للحكم على من يراد تقيمه ، ولكن عوضاً عن هذا معيار يتم إعتماد معياراً آخر هو : الثقة !. وهذا معيارُ ضبابي ، وهلامي ، يفتقر إلى الوضوح والموضوعية. فما هذه الثقة ؟ وما هي معايرها ؟ وما هي شروطها ؟ ربما تثق في شخص لأنك تعجب بصفة أخلاقية فيه.. كأن يكون أميناً، أو صادقاً ، أو ملتزماً ، وما إلى ذلك. ورما تثق في شخص آخر لخصيصية في شخصه، كأن يكون خفيف الدم والظل، مرح ، أو ان يكون مجاملاً لأقصى الحدود، و هو ما يسمى في الواقع مداهناً. أو ربما تثق في شخص أو تعطي شخصاً ما ثقتك، لأنه ينافقك، ويوافقك الرأي في كل الأحوال، ولأنه يسمعك ما تريد أن تسمع عن عظيم إيجابيات تفكيرك ورجاحة عقلك، او لأنه يسمعك ما تريد ان تسمع عن نفسك وقراراتك موافقك ، وأفكارك. ولكن هل هذا هو المعيار الصحيح الذي يجب أن يعتمد عند تقيم أستاذ جامعي بغرض تحديد المهام التي يراد إسنادها اليه ؟. وبما أن الإنسان بطبعه يعاني من الضعف ، ولا يميل إلى سماع ما يكره عن نفسه وقدراته، والطعن في حكمته وعدالته، فإن من يحظى بالثقة في غالب الأحيان هو ذلك الشخص الذي لا ينتقد القرار الخاطئ، أو الذي يبدي رأياً سلبياً حول قرار ما. والنتيجة الطبيعية لذلك هي تراكم الأخطاء، والقرارات التي لا يسندها منطق، تفتقر إلى الموضوعية والدراسة. والحل هو إعادة الاعتبار والعمل بمعيار الكفاءة والخبرة عند إسناد المهام الإدارية الأكاديمية داخل الجامعة. إذ أن غياب معيار الكفاءة والعطاء العلمي، واعتماد مبدأ الثقة وهي من مداخل النفاق والرياء المداهنة، قد أفقد المناصب الجامعية قيمتها وهيبتها العلمية، والتي تستمدها من ضلوع شاغلها في العلم والعطاء العلمي. الكارثة المزدوجة ************** وإن إقحام الشباب الباحثين وهم يدرجون أولى خطواتهم في سلك التدريس الجامعي، وقبل أن يراكموا خبراتهم الضرورية في البحث والعلم والتدريس ، ليتدرجوا بشكل طبيعي في المراقي الأكاديمية، إنما يعني قتل مواهبهم في المقام الأول، واهدار أموال لا تعد ولا تحصى في سبيل إعدادهم ، ثم إن هذا الإقحام المبكر يتسبب في إرباك المسار الإداري للجامعة لقلة خبرتهم الإدارية، ونعدامها التام في كثير من الأحيان، أو فى الغالب منها. إلا أن الكارثة تتفاقم وتصير مزدوجة ، حين يتم إختيار من لم يتأهل بشكل جيد ليمثل الجامعة. إذ تستعين كثير من المؤسسات في القطاعين الحكومي والأهلي بالجامعة حين تحتاج إلى مشورة أهل العلم والمعرفة، سواءً إن كان للتحدث في ندوه أو للمشاركة بأي شكل من الأشكال و على أي مستوى من المستويات ، وبالطبع فأن الدعوة تصل إلى الإدراة العليا للجامعة لترشيح من يمثلها في التخصص المعني. وبما أن المعيار المعتمد كما قلنا هو مبدأ الثقة الهلامي ، للكفاءة والقدرة والعطاء، فإن الإختيار سيتم وفقاً لهذا المبدأ. ولعل القارئ يذكر أننا كنا ناقشنا من قبل مبدأ "شخصنة" السلطة الإدارية في هذه المساحه. ووفقاً لهذا المبدأ الذى أصبح هو المنهج السائد في معظم مؤسساتنا في القطاعين معاً، فإن الإختيار فى الأغلب يقع على من هو أقرب إلى شخص المسئول، وليس إلى من هو الأحق والأكفأ. وتكمن المشكلة في أن هذا الذي يتم إختياره لا يمثل شخصه ولكنه يمثل الجامعة، وبالتالي يصبح هو العنوان عليها وعليه فإن الضعف الذى سيظهره في المحفل الذي يشارك فيه لن يحسب خصماً على شخصه وعلى مستواه العلمي، ولكنه سينسحب على الكيان الجامعي كله ، خصماً على سمعتها العلمية، وطعناً في مصداقيتها الأكاديمية، لأن المشاركون من غير الجامعة ولا شك سيظنون أن الجامعة بعثت لهم الأكفاء والأكثر علماً وخبرةً ومعرفةً فيفاجؤن بالمستوى الذي يظهره ممثلها، وحينها لا يستطيع أحد أن يلومهم إذا ما قالوا: إذا كان هذا أعلم من فى الجامعة فما بالك بالآخرين ؟!. العملة الرديئة تسود **************** ومشلكة معيار الثقة الذي يعتمد فى التقيم ، وفي عمليات الإحلال والإبدال بالجامعات أنه يكرس سيادة وإنتشار العملة الرديئة على حساب العملة الحقيقة الجيدة. لأن الإحساس بالغبن الذى سيداخل نفوس وقلوب الأكفاء من الأساتذة سيؤثر على أدائهم الجامعي، لأن العدل في النهاية مركوز في النفس البشرية، وقد جعل الله سبحانه وتعالى حس العدالة في فطرة الإنسان وثمة ما يؤكد أنه فطر عليها حتى الحيوانات. وطالما كان مبدأ الثقة هو السائد في مؤسساتنا الجامعية، فإن الأكفاء لن يجدوا فرصةً ليأخذوا بعضاً مما يستحقون، لأن الإنسان الذي يملك ما يستحق عليه العطاء والتقدير بطبيعته تحكمه وتقيده أخلاقه عند السعي وراء المناصب، وفي كل الدنيا تسعى المناصب إلى من يستحقها، وهي تتشرف به قبل أن يتشرف بها، فقد كرمه الله بالعلم وقد قال الخالق جل وعلا " وهل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟" وقال سبحانه وتعالى " ولقد رفعنا الذين أوتوا العلم منهم درجات" وقال جل من قال " ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا " صدق الله العظيم. وما بين تهافت "أهل الثقة " وعزوف " أهل الكفاءة" يضيع الطالب والأستاذ والجامعة وأموال الدولة................ لأن ولاة الأمر حفظهم الله ما بخلوا قط على الوطن بشيء، لقد بدلوا اكثر مما تبدل الدول لدفع عجلة التعليم، ورصدوا ميزانيات تكاد تكون مفتوحة في سخائها،وهيأوا المناخ تماماً، ولم يبقى سوى أن نستثمر ونوظف هذا الذى بسطت الدولة لنا يديها بسخاء على النحو الصحيح. العودة إلى الأصول **************** إلا أننا نفعل ما هو عكس ذلك تماماً: وحين نتأمل منصرفات الجامعة نعجب إذ نرى أن المنصرفات على الشئون الأكاديمية والعلمية والبحثية أقل بكثير مما يصرف على البنود الأخرى وعلى رأسها بند الإدارة. ومثار عجبك أن الجامعة مؤسسة تعليمية في المقام الأول، ويفترض أن ما يصرف منها على هذا الهدف الذى من أجله قامت في الأصل هو الأكثر في بنود منصرفاتها. وحتى نرصد أوجه الصرف الإدارية نعجب إذ نرى أموالاً تبدد دون ما مبرر مقنع وما ذاك إلا لغياب الرقابة المالية الصارمة. وما ذاك إلى لغياب مبدأ المحاسبة. وما ذاك إلى لتغيب مبدأ الثواب والعقاب. وإذا كانت معالجة المشكلة على هذا المستوى أسهل لأنها لا تحتاج سوى لشيئين:مبدأ الشفافية ثم الرقابة والمحاسبة. فإن المشكلة الأولى تضل هي الأساس من حيث الحلول. ولكنها تصبح في غاية السهولة إذا نحن عدنا إلى الأصل في مفهوم الجامعية، وعملنا وفقاً للأسس التي وضعت لها منذ البدء.. وإزاء ما تواضعنا عليه من مبادئ منحرفة.. وأحللنا محلها المبادئ السليمة التي وضعها اولى الأمر عند ما وضعوا ـ " نظام مجلس التعليم العالي والجامعات ولوائحه" . فهلا إعتمدناه مرجعاً مرةً أخرى بعد ان نحيناه جانبا......لتواكب جامعاتنا رؤية المملكة 2030 ! ارجو ذلك ! والله الموفق.

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up