رئيس التحرير : مشعل العريفي
 فهد الأحمري
فهد الأحمري

ثقافة تقديس الأشخاص

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

"أولى علامات النضوج هي التخلي عن تقديس الأشخاص"، عبارة ملهمة استوقفتني كثيراً ولطالما يتكرر الاستشهاد بها رغم قصر عمرها إلا أنها من الحكم التي تستحق أن يسير بها الركبان. اليوم نحن أحوج ما يكون إلى إشاعة مبدأ التخلي عن تقديس الأشخاص الذي يقدم الصنمية البشرية وإعطال الفكر وإبطال العقل وهو المسؤول عن إحداث الخلل في مسيرة حياتنا الطبيعية. وبرغم اتفاق كل أحد، تنظيراً، على عدم تقديس أحد، إلا أن الواقع العملي يكشف خلاف ذلك وينبئ عن مبدأ التقديس المتأصل في قناعات الكثير. يظهر ذلك جلياً، حين تطرح رأياً مخالفاً للرأي السائد في مسألة دينية أو ثقافية فيلقي عليك أحدهم "هل أنت أعلم أم فلان؟". كليشة رتيبة درَج سماعها في حال تعبير المدافع عن أيقونته السماوية التي تمشي على الأرض. "هل أنت أعلم أم فلان؟" طمس لهوية العقل وانتكاس في مفهوم العلم ذاته بجعله محصوراً على فلان وفلان، وما عليك سوى تسليم عقلك والانقياد خلف الأولين، إذ "لم يترك الأول للآخر شيئاً"، وفق حكمة المعتكفين على ما شادَه الأقدمون الذين يرون عدم جواز تخطئة "المقدس" المتقدم ووجوب تقديم كلامه ورأيه دوماً على المعاصر. وقد أحسن القائل: قل لمَن لا يرى المعاصر شيئاً ويرى للأوائل التقديما إنَّ ذاك القديم كان حديثاً وسيغدو هذا الحديث قديماً قال الجاحظ: "إذا سمعتَ الرجل يقول: ما ترك الأوَّلُ للآخر شيئاً، فاعلم أنه لا يريد أن يُفلِح‫".‬ إذ إن لكل عصر حقه من الإبداع والابتكار، والعصر الحالي يزخر بالشواهد على التفجر المعرفي الذي يؤكد جدارة اللاحقين ومقدرتهم على الإنجازات التي كانت تعدها الأجيال السابقة ضرباً من المستحيل. والأمة المقدِّسة للشخوص، تتطلع لرؤية رمزاً حاضراً يعيش في أوساطها تجد فيه نموذجاً للأموات المقدسة، لذا، تجدها عندما يبزغ نجم جديد في فلكها تسارع في عملية التحلق الروحي حوله وإضفاء هالة من القدسية الجديدة لشخصه، بحيث إن من ينقده يعتبر ناقداً للسماء مما يستدعي خوض حرب مقدسة نصرةً لهذا المبعوث الجديد المجدد. المفارقة العجيبة هنا أن هذه الشخصية الجديدة قد تنتهي قدسيتها في لحظة واحدة! وذلك عندما يأتي برأي مخالف لما عليه "المقدَّسون" الكبار، الأحياء منهم أو الأموات، وهذا هو الباعث الحثيث للنيل منه والتصدي لفكره والبحث مجدداً عن غيره، بعدما كان لا يشق له غبار ولا يُمل له حديث. أزمتنا الحقيقية في قضية عدم التفريق بين الشخص ورأيه، بين الفرد وفعله. الشخص، أياً كان، له حقه في الاحترام والتقدير، غير أن فعله يتراوح بين الصواب والخطأ على مبدأ (كل ابن آدم خطّاء) وبالتالي فهو محل نقد وتقويم، كائناً من كان، عدا نبي الله عليه السلام. ولعلاج إشكالية التقديس هذه، يجب الاعتراف بها أولاً كمشكلة حقيقية تقف أمام التطور والبناء، لأن الزمن يجري بنا كالنهر لعصور مختلفة ولا بد من استحداث مفاهيم جديدة للنصوص الصحيحة التي هي، في الأصل، مواكبة لكل زمان ومكان لكن عند العقل "النهري" المتجدد وليس العقل "المحيطي" المتجمد. والعلاج أيضاً يتطلب الاعتراف بأن تقديس الأشخاص مرض نفسي يحتاج علاجاً حقيقياً يخرجنا من هذه الأزمة، لأن الحقيقة الراسخة في البشر هي النقص، ودعوى احتكار المعرفة والحقيقة لدى شخص ما جنوح عن الفطرة السليمة إلى حالة مرضيّة معدية قد تفتك بأطياف المجتمع فتلغي فردية الإنسان ويتعطل عمل التنمية وتُشيّد أركان الإفلاس الحضاري. يجب أن نكرس عند النشء إدراك أن النقد البناء حالة صحية إيجابية. إذ هو إبراز للإيجابيات والإشادة بها، وإظهار للسلبيات ومعالجتها بعيداً عن التجريح، لأن الهدف تناول ذات الفكر وليس تناول ذات الشخص، وليس في ذلك انتقاص لمقام الشخص، بل مما يصب في مصلحته شخصياً وللمصلحة العامة أيضاً، سيّما إذا كان الشخص متميزاً وله أتباع. ومما يدعو للتأمل، المفارقة عجيبة في قضية المتميزين لدينا، فهم بين التقزيم والتعظيم، بين الإغفال والإجلال، التجميد والتمجيد. فهناك متميزون في أوساط مجتمعاتنا لا يلقى لهم بال ولا يفتح لهم باب! وهناك متميزون نبالغ في تعظيمهم ويتشبع المجتمع من كيل الثناء الغامر عليهم وإحاطتهم بهالات التبجيل والتمجيد وجعلهم فوق مستوى المراجعة والاستدراك. لقد آن الأوان، وخصوصاً المتعصبين للأشخاص، للتأكيد الجاد بأن الجميع من المعاصرين والأجداد، تحت مظلة النقد الذي هو ميزان تصحيحي يمكن من خلاله تقويم الرأي والفكر، لأن كل إنسان خاضع للنقائص الملازمة لكل البشر.
نقلا عن الوطن

arrow up