رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالله بن بخيت
عبدالله بن بخيت

حفلات لمجد القبح

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

يطالبني أحد الأُخوة أن أكتب عن الفن عن المسرح عن الرواية وبقية الأشياء الجميلة في الحياة. مطلب جميل. فتشت معظم الجرائد السعودية أبحث عن عضيد يشجعني على العودة إلى هذه الأطروحات. لاحظت أن الكتابات المتجهة للحياة مباشرة قليلة ولا أحس ان أصحاب الجرائد يولونها الانتباه الذي كانت تحظى به في زمن مضى. أينما تذهب تجد داعش ومشتقاتها في وجهك. لا أعرف كيف أصف هذا الوضع. أقر أن الفن هو المخرج المضمون مما نعانيه من توترات وصراعات ولكن الأمر أكثر تقعيدا. لا يمكن تفعيل قوة الفن بعد غيبة طويلة دون تحسين الإيمان به. الفن في المملكة لم يهجر لقلة المادة أو بسبب ضغط العيش أو لضعف البنية التحتية أو حتى الجهل ولكنه أرغم على الصمت بوصفه خطيئة.
يخرج على الملأ عدد من الرجال امام تجمع كبير من صغار السن وينتصبون على منصة (من الواضح أنها لمدرسة أو جهة رسمية) ويقيمون حفلة حرب على الفن. يكسرون الأعواد والقيثارات في حالة من الهستيريا تحت شعارات الله أكبر ذات النبرة القتالية.
الفن مثل الحرية من الصعب إقناع الناس بقيمته دون ممارسته. دون العيش فيه. لم أصدق صديقا يذهب إلى نيويورك لحضور حفلات موسيقية. سألته مرة هل تجلس في المسرح لسماع موسيقى فقط. فقال نعم وأدفع مئة دولار لسماع مقطوعة مدتها نصف ساعة فقط.
ذهبت لنيويورك لأحضر حفلة من هذا النوع من باب الفضول. رغم أني ذهبت إلى تلك الحفلة بتوجس إلا أن ما حصلت عليه كان أكثر من متعة موسيقية. تجربة سميتها الانسجام الإنساني. أكثر من سبعين عازفا بآلات مختلفة يصدرون صوتا واحدا كأنه قادم من الطبيعة نفسها. والأكثر من هذا تمنحك تلك الموسيقى الإحساس بأنك جزء من هذه الطبيعة التي تتخلق أمامك.
ذكرتني تلك الموسيقى اليابانية بحفلات بسيطة حضرتها قبل حوالي أربعين سنة في النوادي الرياضية بالرياض. لا يمكن مقارنة الفرقة اليابانية الضخمة بفرقة سعودية تشكلت من ناس بسيطين في زمن بسيط وبآلات رخيصة لكن شعرت ان شيئا ما يجمع الفرقتين ويضعهما في سياق واحد. لا أعني أن المسألة في النهاية موسيقى. لم يكن عزف الفرقة السعودية جيدا أو متناغما ولم تكن الموسيقى المنتجة في الرياض شبيهة بالموسيقى التي انتجتها الفرقة اليابانية في نيويورك. في الحقيقة لم تكن المقارنة بين المعزوفتين. اكتشفت أن ما تم تنظيمه في تلك الفرقة المحترفة وجمعه في مقطوعة هو ما ترك مبعثرا في الرياض. أتذكر في حفلات الرياض القديمة (وهل فيه جديدة) ان يعمد العازفون إلى التعابث بآلاتهم وهو ما يسمى في بعض الأحيان الدوزان. يحدث هذا قبل أن يندمجوا في موسيقى الاغنية بأمر من المطرب الذي يقف أمام الجماهير. كان كل عازف يظهر نغمات تخصه. يبحث عن النغمة النشاز لينزعها من وتره قبل ان ينسجم مع الآخرين، فيتشكل من هذا التعابث والدوزان قطعة موسيقية غريبة تجبرنا جميعا على الصمت والإنصات اكثر مما يجبرنا المطرب الذي حضرنا من اجله. تشعر أن كل عازف يقوم بمهمة سامية واحدة وهي مطاردة القبح. ما يفعله أعضاء فرقة الرياض بعفوية وبساطة هو ما يفعله الموسيقار في الفرق الموسيقية الكبرى ولكن بشكل واعٍ ومنظم ومدروس وبخبرات متراكمة.
وظيفة الفن الأساسية تطهير الحياة من القبح فلم يكن أمام داعش لضمان مقاتلين في صفوفها سوى تحريمه وإقامة حفلات تكسير أدواته. نقلا عن الرياض

arrow up