رئيس التحرير : مشعل العريفي
 عبدالحميد العمري
عبدالحميد العمري

أسباب ومخاطر تعثر توطين فرص العمل

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

استكمالا للحديث عن المقاومة الشرسة لتوطين سوق العمل، التي ارتفعت درجتها بصورة لافتة أخيرا، خاصة مع بدء وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بتنفيذ برامج "التوطين الموجه"، انكشفت تلك المقاومة بصورة صارخة تحت التجربة الأولى المتمثلة في التوطين الكامل لمحال الاتصالات. مبتدئا من الإجابة عن الأسئلة الأخيرة التي طرحت في نهاية المقال السابق، حول هوية الطرف الذي أفرط وتسبب في حالة الإدمان على العمالة الوافدة؟! وكيف تحولت وتطورت حالة الإدمان تلك، إلى أن وصلنا إلى حالة الإدمان الراهنة بالغة الإفراط؟ ذلك أن الإجابة عن تلك الأسئلة، ستقودنا جميعا إلى التعرف على أهم الأسباب الكامنة خلف تشوهات سوق العمل المحلية، التي بدورها ستساعد على الوصول إلى ركائز وطرق الحل والمعالجة. بدأ مسلسل الإدمان المفرط على العمالة الوافدة من رجال الأعمال، الذين حولوا "نافذة" الاستقدام "عند الحاجة" في مطلع نهوض منشآت القطاع الخاص قبل نحو أربعة عقود، إلى "بوابة" مفتوحة الأبعاد إلى أبعد مما كان يمكن تصوره، حتى وصل استحواذ العمالة الوافدة على تسع فرص عمل من كل عشر فرص (سيطرة بنسبة 90 في المائة)، ولأن أغلب نشاطات منشآت القطاع الخاص طوال العقود الماضية، تركزت على إما الاقتيات من المناقصات الحكومية (عقود التشغيل والصيانة والإنشاءات)، أو الاستيراد بالجملة من الخارج والبيع بالتجزئة محليا، وكلا المجالين السابقين لا يتطلب توظيف عمالة ماهرة ذات تأهيل علمي مرتفع؛ نتج عن ذلك أن اكتظت سوق العمل المحلية بأكثر من 92 في المائة ممن لا يحملون أعلى من الشهادة المتوسطة! في الوقت ذاته الذي كان التعليم العام والعالي في البلاد، ينتج مئات الآلاف من الموارد البشرية الوطنية المرتفعة التعليم، مع الاعتراف بعدم ملاءمة نسبة لا يستهان بها من تلك المخرجات التعليمية من حيث التخصصات، لاحتياجات ومتطلبات التوظيف في سوق العمل المحلية بشكل عام (حكومي، خاص).
تحول الأمر في مرحلة مبكرة من هذا الإفراط في الاستقدام من الخارج للعمالة، إلى أن راجت تجارة تأشيرات العمل، لتتحول هي بحد ذاتها من مجرد وسيلة للتوظيف إلى تجارة قائمة تتدفق منها مكاسب طائلة! تزامن معها انفتاح بوابة هائلة لا حدود لها لممارسات اقتصاد الظل "التستر التجاري"، ودخلنا مرحلة بالغة التعقيد، أصبحنا نواجه فيها اقتصادا غير رسمي تسيطر عليه العمالة الوافدة بصورة لم يسبق لها مثيل، تمكنت من خلالها من الوصول والاستحواذ شبه الكامل على مختلف الأنشطة والأسواق المحلية.
كان طبيعيا جدا أن تفشل برامج التوطين (نطاقات) وغيرها من البرامج التي دشنت في مطلع 2011، وأن تتفاقم في تلك المرحلة وما تلاها الحيل الذكية التي لجأت إليها منشآت القطاع الخاص، لينتشر ما يطلق عليه التوظيف الوهمي. ذلك أن "نطاقات" وبقية البرامج التي تزامنت معه وبعده، لم تكن تمتلك القدرة على مواجهة ومعالجة الأسباب الجذرية لتفاقم التشوهات الهيكلية في سوق العمل المحلية، حسبما اتضحت أبرز معالمها أعلاه! بل مع الأسف أنها أدت إلى تفاقم تلك التشوهات، لعل من أخطر ما نتج عنها أنها كافأت المنشآت التي تورطت في التوطين الوهمي، بمنحها مزيدا من تأشيرات الاستقدام! وذلك بسبب نجاحها الظاهري في الانتقال من النطاق الأصفر أو الأحمر إلى النطاق الأخضر، لتتورط سوق العمل المحلية في طور جديد من زيادة الاستقدام، وزيادة سيطرة العمالة الوافدة على أغلب إن لم يكن كل مقدرات السوق المحلية.
كان إيجابيا جدا أن تبدأ وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بتصحيح مسارات عملها، وأن تتجه في خطين متوازين لمواجهة هذه التشوهات البالغة الخطورة على الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، تمثل الخط الأول في تطوير أدوات برنامج نطاقات إلى "نطاقات الموزون" للتصدي لعمليات التوظيف الوهمي، الذي سيأخذ في اعتباره عوامل جديدة، يأتي في مقدمتها وهو العامل الأهم متوسط أجور السعوديين في المنشأة، ونسبة توطين النساء في المنشأة، والاستدامة الوظيفية للسعوديين، ونسبة ذوي الأجور المرتفعة منهم. كل عامل من تلك العوامل يشكل وزنا نسبيا أثقل على كاهل منشآت القطاع الخاص، وهي الاعتبارات التي لم يأخذها بعين الاعتبار "نطاقات" في تجاربه السابقة 2011-2015. هذا النمط المتطور من نطاقات سيصطدم مباشرة مع القوى المسيطرة من العمالة الوافدة في كبرى منشآت القطاع الخاص ومتوسطتها ، ويؤمل أن ينجح في تصحيح الكثير من الاختلالات والتشوهات القائمة الآن في تلك المنشآت، والتجربة ستبدأ فعليا في مطلع 2017، ولا شك أن السوق ستشهد كثيرا من التطورات والصدمات، إلا أنها يجب ألا تخرج عن كونها أمرا متوقعا لحالة تصحيح قطاع خاص مضت عليه عقود طويلة، اعتاد العيش والتوسع على تشوهات وأوضاع خاطئة، ويجب القيام بتصحيحها ومعالجتها رغما عنه.
بينما تمثل الخط الثاني في العمل ببرامج "التوطين الموجه" التي تركز عملها على قطاع أو نشاط بعينه، وهي البرامج التي لا شك أنها ستصطدم مباشرة مع القوى المسيطرة من العمالة الوافدة على الأسواق الجزئية المحلية، وهو الاصطدام المتوقع قوته مسبقا، ذلك أن وزارة العمل هنا دخلت في مواجهة مباشرة مع قوى استغرقت عقودا من غياب الرقابة والمتابعة لها، لتتشكل وتسيطر وتتحول إلى حجمها الهائل اليوم، ومن الطبيعي جدا أن نشاهد جميعا هذه المقاومة الشديدة لتلك التكتلات الوافدة، وأن نرى ردود أفعال صارخة لم تكن واردة في حسبان أحد، حتى أولئك المتسترين على العمالة الوافدة! وليس كل ما شهدناه جميعا من ردود أفعال غاضبة ورافضة، إلا بداية طريق طويل جدا وشاق، المفترض أن يزيد من عزيمة وزارة العمل وبقية الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، ومعهم بكل تأكيد المجتمع السعودي دون استثناء لأحد منهم.
ختاما؛ تؤكد وقائع ما نتعايش معه من تحديات ومتغيرات على مستوى الاقتصاد الوطني عموما، وسوق العمل المحلية على وجه الخصوص، أن المخاطر الكبيرة جدا لاستمرار تلك التشوهات والسيطرة المفرطة للعمالة الوافدة على أغلب إن لم يكن كل الفرص والمقدرات التابعة للقطاع الخاص، أن تلك المخاطر أكبر اقتصاديا وماليا واجتماعيا وأمنيا من أية مخاطر أو آثار محتملة لمعالجتها، ويجب ألا تردنا جميعا عن المضي قدما في الطريق السليم لتصحيح الأوضاع الراهنة مهما كلف الثمن! وللحديث بقية. والله ولي التوفيق.
 
نقلا عن الاقتصادية

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up