رئيس التحرير : مشعل العريفي
 علي العميم
علي العميم

خاشقجي والنمنم « 5 »

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

إن علينا أن نفهم قول النمنم، إنه سيواصل انتقاد الفكر الوهابي، ونفهم قوله الآخر، إن وصول أصحاب الإسلام السياسي لاتهامه بالإلحاد، وسام شرف يعلقه على صدره، إنه كلام تسيره ردة فعل محكومة بالملاحاة والعناد والانفعال. ويظهر أن الباحث والوزير عصبي جدا. من المؤكد أن القارئ سيعتقد مع قوله الأول، إن له رصيدا في نقد الوهابية، أو إنه اشتغل ويشتغل على نقد الوهابية. وهذا أمر غير صحيح. فالوهابية في مجمل ما قاله عنها، كما قلنا سابقا، هي موضوع عرضي. كذلك هو الأمر مع قوله الآخر، إذ لا يوجد في كل ما كتبه ما يدل ظاهرا، ولا ما ينم ضمنا على أنه ملحد. وإذا ما أتينا بنص قوله كاملا: «أنا في حرب من عقود طويلة، ووصولهم لاتهامي بالإلحاد، (......)!»، وتأملنا فيه مليا، توصلنا أن معناه هو: إن هؤلاء الذين هو في حرب معهم لها أمد طويل ويبغضهم أشد البغض، والذين انتهوا إلى اتهامه بالإلحاد، هو لا يكترث ولا يأبه باتهامهم هذا. لأن ليس لهم عنده مصداقية، وقذفهم له بهذه التهمة يشير إلى أنه آذاهم ونال منهم في كتاباته وأصابهم في مقاتل. إنه في كل ما كتبه ــ وخصوصا ــ في ما كتبه وهو في سبيل نقد سيد قطب وحسن البنا وفي متن هذا النقد، نخلص إلى أنه يتكئ ــ أو هكذا يرى هو الأمر ــ على توجه إسلامي نير وعقلاني وعصري. لا جدل أن حلمي النمنم يرفض وينفر من الوهابية في مصر، ويحملها مسؤولية نشأة جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الدينية الجهادية والسلفية، ويحملها ــ مع الجماعة الأولى ومع الجماعات الأخرى ــ شيوع التزمت والتطرف الديني في بلده. ولعلنا نتفق إذا استصحبنا وراعينا منطق «النسبية» في الحكم على كتابات المصريين في تشخيص أسباب مشاكل المجتمع المصري وعلله، سنحكم للصحافي والباحث النمنم بأنه معتدل، فهو ــ على الأقل ــ يحمل الوهابية المسؤولية جزئيا بينما كثرة كاثرة من الباحثين والمثقفين المصريين، ترفع الوهابية والتدين السعودي إلى سبب الأسباب وعلة العلل، وتجعل من السعودية بنمط حياتها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي سببا رئيسا في خراب الحياة المصرية من نواح شتى. وعلى أساس هذه النظرة القومية القارة، التطهرية والاصطفائية، التي يبرز فيها المجتمع المصري بوصفه مجتمعا عذريا وملائكيا، ومدينة فاضلة، لا أرى أن الموقف الذي يتخذه عن اجتهاد، موقف مستنكر، بل هو «عادي» و «عام» في المجتمع البحثي والأكاديمي والصحفي والأدبي والثقافي والفني المصري. وقد لا يدري جمال خاشقجي أن تحول موقف المثقفين إزاء الوهابية بدأ في ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن كان أبرز المثقفين الليبراليين في المنتصف الأول من القرن الماضي، يثمنونها، وكانوا يفضلونها ــ لأسباب وجيهة ــ على التصور الديني الرسمي وعلى الممارسة الدينية الشعبية في مصر. وبصرف النظر عن نظرة المثقف المصري الطهرانية والاصطفائية إلى مجتمعه ونظرته الاستعلائية إلى جيرانه وأشقائه، فإن التدين في السعودية مسؤول عن تحول موقف المثقفين المصريين وسواهم من بلدان أخرى تجاه الوهابية. ويجدر أن نذكر ضمن هذه المسؤولية أن الدولة في ماضيها لم تكن موفقة في الكيفية التي تعاملت بها مع تيار الإخوان المسلمين، المصري والسوري، إذ تركت لهم وحدهم مهمة صياغة الوجدان السياسي والاجتماعي والفكري، وشؤون التعبئة الحزبية والثقافية والعقائدية، على طريقة ترك الجمل بما حمل. وكانت النتيجة تثبيت وترسيخ التزمت والتطرف وتطويره وتعميمه بوسائل وآليات جديدة ومغرية وفاتكة لم يكن يعرف طلبة العلم والمشايخ الوهابيون عن أمرها شيئا. إننا لو قارنا موقف النمنم بمواقف آخرين من الأدباء والمثقفين المصريين من السعودية، لوجدناه بردا وسلاما، فهو ليس مثلهم، لأنه يتكلم بلغة أهدأ وأرصن. أما الروائيان إبراهيم عبدالمجيد وعلاء الأسواني ــ على سبيل المثال ــ وهما يحملان السعودية والتدين السعودي نكسة العقل والثقافة المصرية، ينتابني شعور بالشفقة على معرفتهما المتواضعة، لذا فإني اهتبلها فرصة، وأناشدهما من هذا المنبر بصدق وإخلاص ــ وفاء للعقل واحتراما للثقافة المصرية ــ أن يتلقيا أولا وقبل كل شيء، دروسا خاصة مكثفة في تاريخ ومجريات الثقافة المصرية المحدثة إلى سنوات السبعينيات الميلادية، قبل أن يتنطحا لهذا الحديث الوعر. كان من المفترض بخاشقجي بمناسبة تعيين النمنم وزيرا للثقافة، أن ينقده في ما كتبه عن سيد قطب وحسن البنا، وينقد طريقته ومنهجه بشراسة وحتى بعدائية، فهذا حقه ــ بوصفه مثقفا وبوصفه إخوانيا ــ وإن كان غير قادر على ذلك، فليكتف بإعلان الاختلاف الحاد معه. لكن هكذا هم «الإخوان المسلمين» لا يحسنون سوى الصراخ والتحريض وترديد البكائيات. ففكرهم هو فكر دعائي وعاطفي وليس فكرا علميا، من حيث المحتوى والمنهج. ولا عجب إذن في أن ردودهم على تاريخهم المكتوب من قبل الآخرين وردودهم على النقد الموجه إلى أفكارهم وتنظيراتهم، ضعيف ومهلهل. إني مع تثميني لكتابات حلمي النمنم عن الإخوان المسلمين وكتاباته الأخرى، إلا أنني أرى في الأولى ثغرات منهجية ونقصا في المعلومات وضعفا في بعضها وفجوات في التحليل، وفي جعبتي أمثلة لما ألمحت إليه وربما يأتي وقت ملائم لطرحها. إذا كنت قد أكدت أعلاه أن وشاية خاشقجي بالنمنم هولت في أمر عادي، فإني أظن إن نبهت القارئ أو ذكرته بشاهد مستجد من خارج البيئة والسياق المصري وخارج البيئة والسياق العربي وخارج البيئة والسياق الشيعي، ربما ستصبح الوشاية عنده ــ كما هي عندي ــ كثيفة الظل، أو مزحة ثقيلة: من بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001، بدأ السروريون السعوديون و «الإخوان المسلمين» السعوديون يتنصلون من مسؤوليتهم السياسية والحزبية والأخلاقية والفكرية في صنع التزمت والتشدد والغلو وإحداث العنف والإرهاب اللذين امتدا إلى الغرب، ويعلقون المسؤولية برقبة الحكومة السعودية وبرقبة الدعوة الوهابية. وبطبيعة الحال، فإن السروريين والإخوان المسلمين غير السعوديين هما مؤتلفان ومتصاقبان في هذا البدء. وفي السنوات الأخيرة تكرس حكم عند جمهرة من الليبراليين الحكوميين وعند الليبراليين المناضلين، وليبراليي الدونمة «ليبراليو الدونمة تعبير أقصد به قوما يظهرون الليبرالية ويبطنون الشيوعية. نسأل الله العافية!»، إن الوهابية هي العامل الأساس في نشر التزمت والتشدد والغلو وفي نشأة العنف والإرهاب الإسلامي. ويختلف الليبراليون الحكوميون الذين يقولون بهذا الحكم مع الليبراليين الآخرين، أنهم يقصرون هذا العامل على تاريخ الوهابية وعلى حاضرها وعلى تنظيمها أو مؤسستها الرسمية، وإن كان فيهم من يدخل الحكومة لكن بدرجة أخف وعلى خفر واستحياء. ولعل الفرق بين طائفة السروريين والإخوان المسلمين السعوديين «ومعهم غير السعوديين» وطائفة الليبراليين بأنواعهم الثلاثة، أن الطائفة الأولى حكمها مبني على مغالطة وقحة، الدافع لها انتهازيسة رخيصة، والتنصل ــ في بعض ما علمنا تاريخهم ــ من طبائع الإسلاميين ومن شيمهم، أما الطائفة الثانية فحكمها مبني على اجتهاد يحتاج إلى الإلمام بالإسلام بمختلف عقائده وأمكنته في القرون المتأخرة، وبنشأة الفكر الإسلامي المحدث في القرن 19، ونشأة الإسلام الحركي الذي هو في أصله وفصله ينتسب إلى الهند، وقد جرجر إليه الماء من ساقية سنية ومن سواق شيعية. ويحتاج إلى قدرة على ترتيب تلك الوقائع ونظمها في سياق متصل يتم فيه القبض على النواة وتتبع سلسلة النشوء والارتقاء في سبيل التأريخ لإسلام هجين ومبتدع وهو المسمى بالإسلام الحركي المعاصر، يحدد ما هو أساسي وثانوي، وما هو مركزي وطرفي، وما هو مؤثر ومتأثر فيه. ويحتاج الاجتهاد إلى.. وإلى.. إن في ما قلته في صدر الشاهد المحلي ما يبرر القول صراحة، إن وشاية خاشقجي كانت لضغينة إخوانية وليس لحمية سلفية، كما تظاهر وادعى.
نقلا عن عكاظ
 

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up