رئيس التحرير : مشعل العريفي
 بدر بن سعود
بدر بن سعود

جاثوم الفساد

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

مكافحة الفساد تسهم في حوكمة الأداء الوظيفي وحماية المال العام والاقتصاد الوطني، وتعزز من قيم المواطنة ورفاهية المواطن، والمملكة قدمت نموذجاً ملهماً في هذا الجانب، ولدرجة أن مهندس الرؤية فيها أصبــــح مطلــــوباً لإصلاح الفســــاد في أكثر من بلد عربي..

نشرت نزاهة في 21 مايو الجاري عن ضبطها لقرابة 211 مشتبهاً به في سبع وزارات، وشملت القائمة وزارات سيادية كالداخلية والدفاع والحرس الوطني، بالإضافة إلى العدل والبلديات والتعليم وهيئة الزكـــاة والضريبــــة، والأشخاص محل الشبهة متورطون في جرائم رشوة واستغلال نفوذ وغسل أمـــوال وتزوير، وفي الثامن عشر من الشهر ذاته، قبضت الهيئة على اثنين من الموظفين في المحكمة العامة بجدة، وهما يستلمان رشوة من مواطن، وجاءت الرشوة مقابل فتح جلسات بمحكمة الاستئناف لنقض الحكم الصادر بحقه في قضية قائمة، وفي مارس من العام نفسه، تم إيقاف دبلوماسيين وعسكريين وموظفين في القطاع العام، بعدما ثبت بالدليل أنهم استقبلوا رشى تزيد على 20 مليون دولار، لإصدار تأشيرات عمل غير نظامية لعمــــالة بنغلاديشية، وبما يمكنها من العمــل في الأراضي السعودية، ووفق الإحصاءات السعودية الرسمية لعام 2021، فقد تم استرداد أكثر من 56 مليار دولار من أموال الدولة عن طريق مكافحة الفساد منذ 2017.

الأصل بالتأكيد هو نزاهة أجهزة الدولة وموظفيها حتى يثبت العكس، وهذا المبدأ تعمل عليه هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وبأسلوب التحقق من البلاغات قبل التحقيق فيها، ما يعني أنها تخضع لتحريات ومتابعات مطولة تسبق عمليات القبض والتوقيف، وأحياناً يقوم الوزير نفسه بالإبلاغ عن الفساد في وزارته، وحدث السابق في وزارة النقل وتقديمها لقضية فساد متعددة الأطراف، وفي وزارة الرياضة حول أمور تتعلق بفساد مالي في الأندية الرياضية، وتحديداً المصروفات في غير محلها واستغلال الميزانيات، باعتبارها كيانات تمـــولها وتملكهـــا الدولة، ويمكن الاستعانة بقضيتين، جرتا في الأيام الماضية، لناديي برشلونة الإسباني ويوفنتوس الإيطالي، والتعامل معهما كمثالين منفصلين.

علاوة على إبلاغ رئيس محكمة تنفيد عن قيام موظفين في محكمته بعمليات اختلاس، وبما قيمته 17 مليـــون دولار، استخـــــدم موظفوه لتحصيلها أوراقاً مزورة، ومن أبرز قضايا الفسـاد التي باشرتها نزاهة، قضايا استغلال أشخاص نفوذهم الوظيفي في إبرام عقود وظيفية خاصة لوزارة الدفاع، وتورطهم في جرائم رشوة وغسل أموال، بينهم ثمانية ضباط أحدهم برتبة لواء وآخرون متقاعدون، خلال الفترة ما بين عامي 2003 و2014، وما سبق من مكافحة للفساد تمت معالجته بإشراف من سمو ولي العهد الذي كان وزيراً للدفاع في ذلك الوقت.

ما قامت به نزاهة كشف عن المزاج الاجتماعي القديم الذي كان متسامحاً مع الفاسدين، والمسؤولين في أزمنة سابقة كانوا يدافعون عن أجهزتهم مع علمهم بأنها فاسدة، ما لم يشاركوا في فسادها بالأصالة أو بالوكالة، ومن الشواهد الموثقة، القاضـي الذي يحكـــم لصالح من يـدفع لوسيطه رشوة قدرها 16 ألف دولار، ومن قام بترسية مشاريع لوزارة الإسكان على شركة اشترت له منزلاً، والأصعب أن الفساد وصل إلى الفروقات في تثمين الأراضي المتجاورة، ولا أنسى ضبط نزاهة لشخص عرف بـ(أخطبوط الشرقية) في أغسطس 2020، وهو من تجارها الكبار، بعد أن قام بتكوين شبكة علاقات فاسدة لتطوير تجارته وتعظيمها، وقد قدم لأطرافها رشى عينيـــة ومالية، تصل قيمتها إلى خمسة ملايين وثلاثمائة ألف دولار، والشبكـــــة تضــــم في تشكيلها، عضو مجلس شـورى وقـاضياً وكاتب عدل ومـدير شـــرطة منطقة، ومعهم مدير جمارك ومصرفي وعدد من الضباط المتقاعدين.

قامت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد في المملكة بأعمال مهمة منذ 2019، وذلك بعد دمجها مع المباحث الإدارية وهيئة الرقابة والتحقيق، وهو إجراء وسع من صلاحياتها وأعطاها دفعة كانت تحتاجها، وفي العام نفسه تقدمت الدولة سبعة مراكز في المؤشر الدولي لمكافحة الفساد، ووصلت إلى المركز 51 من أصل 180 دولة، وحققت معه الترتيب العاشر بين دول مجموعة العشرين، ورغم أن اختصاص نزاهة الأساسي يركز على موظفي الدولة، وعلى تصرفاتهم المالية والإدارية المتجاوزة، إلا أنه ينظر كذلك في قضايا الشركات، وبالأخص التي تمتلك فيها الدولة ما نسبته 25 % فأكثر، بجانب قضايا الشركات المتعاقدة مع الدولة، وقضايا القطاع الخاص إذا اشتملت على رشى لموظفين حكوميين، ويحكم فساد الوظيفة العامة نظامان، الأول نظام الإجراءات الجزائية في القضايا الجنائية، والثاني نظام تأديب الموظفين في المخالفات الإدارية.

مكافحة الفساد تسهم في حوكمة الأداء الوظيفي وحماية المال العام والاقتصاد الوطني، وتعزز من قيم المواطنة ورفاهية المواطن، والمملكة قدمت نموذجاً ملهماً في هذا الجانب، ولدرجة أن مهندس الرؤية فيها أصبــــح مطلــــوباً لإصلاح الفســــاد في أكثر من بلد عربي، وبشهــادات عفوية موثقة بالصوت والصورة، وبحسب إحصاءات صنــــدوق النقد الدولي، فإن الرشى تستهلك قرابة تريليوني دولار سنوياً، وكلفتها لوحدها تزيد على 2 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ومن الأمثلة أن القارة الإفريقية لديها 60 % من كامــــل الأراضي الصالحة للزراعـــة في العالم، و30 % من مخــــزون الثروات المعدنية، وبينها خمس من أكبر الدول المنتجة للنفط، ولكن الفساد القابع على صدرها كـ(الجاثوم) يستنزف 70 % من مقدراتها، وكل أزماتها وصراعاتها بسببه.

نقلا عن جريدة "الرياض"

arrow up